من المثير حقاً الفرق الجوهري بين مركزية الدولة في خطاب الإسلام السياسي الراهن وضآلة الاهتمام بالمسألة السياسية عموماً في التقليد الإسلامي عقيدة وفقهاً وأخلاقاً.
.فإذا كان المتكلمون السنة درجوا على تناول موضوع الإمامة في كتب العقيدة، إلا أنهم يحرصون على التأكيد أنها ليست من أصول الاعتقاد بل هي من الظنيات التي لا يقين فيها، مكتفين بأطروحتين أساسيتين: وجوب نصب الإمامة لاتقاء الفتنة وصيانة وجود الجماعة، والنص على آلية الاختبار والبيعة ضمن شروط مرنة تراعي خصوصيات الظرفية التاريخية للأمة.
أما كتب الفقه فلا تخرج عن هاتين الأطروحتين، وليست لكتب «الأحكام السلطانية» أو «السياسة الشرعية» أهمية تذكر في التقليد الفقهي، على رغم اتجاه بعض الباحثين المعاصرين إلى أن يستشف منها نظرية في «الشرعية السياسية».
وإذا كان المفكر المغربي عبدالله العروي قد ذهب إلى القول إن الفقهاء تعاملوا مع الموضوعات السياسية بطريقة براغماتية واقعية تستند إلى الخلافة أفقاً مرجعياً، وإن كانت تراه مثالاً إلهياً يعلو على التاريخ وتتبنى الواقع وتضفي عليه الشرعية، إلا أن ما لم يقف عنده العروي هو الأسباب النظرية والعقدية لهذا التوجه الواقعي الذي يرفض فكرة قابلية الدولة لتجسيد المطلق الديني.
في السنوات الأخيرة، برزت أعمال عديدة مهمة اتجهت في سياق أطروحة الفيلسوف والقانوني الألماني «كارل شميت» حول العلمنة إلى رصد العلاقة العضوية إيجاباً وسلباً بين اللاهوت والسياسة في التجربة الأوروبية الوسيطة والحديثة، لم يواكبها جهد مماثل في التعرض للتجربة الإسلامية على رغم المحاولات الطريفة التي قدمها طلال أسد ووائل حلاق.
ما بدا لنا مهماً هو الانطلاق من السؤال الجوهري المتعلق بأثر غياب بنية لاهوتية في الإسلام (على غرار المسيحية) على طبيعة الفكر السياسي المتعلق بالدولة، وصولاً إلى الإجابة المطلوبة حول أسباب تعثر الكيان السياسي لنمط الاجتماع العربي الإسلامي ماضياً وراهناً، وهل لهذا التعثر علاقة بغياب هذه الأرضيّة اللاهوتية.
من طبيعة طرح هذا السؤال أن يقلب المنظور المقارن الذي تعالج عادة من خلاله المسألة الدينية- السياسية في المسيحية والإسلام، فمن الشائع وفق هذا المنظور أن المسيحية ديانة غير سياسية ظهرت خارج الدولة وفي مواجهتها، ولذا استطاعت أن تفرز العلمنة وتتأقلم معها، في حين أن الإسلام ديانة سياسية بالأساس لا يمكن تصور الفصل بين الدين والدولة فيها.
وما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن اللاهوت المسيحي المتمحور حول عقيدة التثليث والتجسد وإن كان في ذاته ليس سياسياً، إلا أنه بقدر ما وفر للدولة الوسيطة إطاراً للشرعية من حيث نزعته الكونية التبشيرية المرتبطة بعقيدة الخلاص ومذهب «الحرب العادلة»، فقد وفر أيضاً للدولة الحديثة الرافدين الأساسيين اللذين شكلا خصوصياتها وهما: فكرة السيادة في دلالاتها الإطلاقية المنقولة بداهة من الحقل اللاهوتي وتقنية «السلطة الحيوية» (حسب عبارة ميشل فوكو) التي تحدد ضوابط التحكم في الأفراد وتسيير إراداتهم ونوازعهم الذاتية بما هو مستمد من نظام التدبير الكنسي للجسد والوعي.
وفي التقليد الإسلامي كما هو معروف لا مكان للاهوت، وعلى رغم التشابه الظاهر بين علم الكلام والمباحث اللاهوتية إلا أنهما يختلفان في نقطتين جوهريتين: ليست المباحث اللاهوتية من شأن أو اهتمام المتكلمين الذين يكتفون في تناولهم لموضوع الصفات الإلهية بما يخص منها الطبيعة أو الإنسان مجمعين على أنه لا سبيل إلى إدراك طبيعة الذات الإلهية أو الإحاطة بكنهها (وقد فشلت محاولة ابن سينا لبناء علم للالهبات). كما أن علم الكلام لا يضع أي قانون للاعتقاد بل هو منهجية نقاشية حوارية للدفاع عن أصول الدين الإجماعية نادراً ما تفضي إلى تقرير حقائق ملزمة حتى داخل المدرسة الكلامية الواحدة.
ومن هنا يتسنى لنا القول إن ربط العقيدة بالسياسة في الإسلام ليس سوى بدعة مستحدثة في الفكر الإسلامي، فالمتكلمون الذين كان كبارهم نشطين في الشأن العام لم يهدفوا إلى بناء نظرية عقدية في السياسة، وإن كانوا انحازوا دوماً إلى مبدأ السلطة العادلة القادرة على صيانة الدين وحماية المجتمع، واعتبروا أن تطبيق الدين ليس منوطاً بالدولة وحدها وإنما هو أمر تكليفي جماعي، وأقصى ما هو مطلوب من الحاكم هو توفير شروط الأمن والاستقرار لنمط الاجتماع الأهلي.
وإذا كان بالإمكان تفسير هشاشة الكيان السياسي للدولة في المجتمعات المسلمة المعاصرة بضعف الرصيد العقدي (بالمعنى اللاهوتي) لفكرة السلطة السيادية المطلقة التي هي مقوم الدولة الحديثة، إلا أن الخطر الأكبر الذي يتهدد مسار تشكل الدول الحديثة في العالم الإسلامي هو إيديولوجيا العقيدة السياسية الإسلامية التي تبنتها الجماعات المتطرفة لنسف شرعية الدولة الوطنية القائمة بتحويل الدين إلى وقود للفتنة والصراع الأهلي.