تواجه الطبقة العاملة اليوم تحديات خطيرة ترتبط بالأساس بتأمين الوظائف وحماية العلاقة بين العمل والدخل في ظل اتساع استخدام التقنيات الرقمية ونظم المعلومات الجديدة، فقد أدى استخدام الحواسيب والبرامج الرقمية والأذرع الآلية إلى فقدان ملايين العمال في العالم وظائفهم دفعة واحدة، ولم يقتصر الأمر فقط على العمال غير المهرة أو اليدويين، كما حدث في السابق في بعض موجات الثورة الصناعية في أوربا في القرن التاسع عشر، بل طال الأمر هذه المرة كل قطاعات العمل تقريبا ومن كل التخصصات والمستويات، سواء كان يدويا أو ذهنيا، ولم تقتصر الكارثة أيضا على العالم الصناعي المتقدم ،بل حدث نفس الشيء وربما أسوء في العالم النامي، فبرامج الحواسيب والهواتف الذكية أغنت أصحاب المؤسسات عن أعداد هائلة من العمال بدءا من مهندسي التصاميم ، ومحرري الرسائل، ومدققي الحسابات والمترجمين ومسيري الملفات وحفظة الأرشيف، أغلب تلك الوظائف تلاشت كخيوط دخان و تلاشت معها خدمات ولوازم ومعدات كانت هي الأخرى عماد أنشطة ووظائف لأعداد هائلة أخرى من العمال
...
أما وظائف الأشغال والورش فهي تتلاشى أيضا وسط هدير الآليات والمعدات من رافعات الحمولة والحفارات وغيرها ، وبالنسبة للعالم الصناعي المتقدم فقد أدت الأزمات الناجمة عن فقدان الوظائف وانهيار المداخيل إلى تنامي العداء للمهاجرين الذين أصبح ينظر إليهم ليس فقط كمنافسين فيما تبقى من وظائف بل كتهديد لمستوى العيش وطرقه وهو ما عزز بروز أحزاب اليمين المتطرفة والشخصيات الشعبوية المعادية للأجانب واكتساحها المذهل لكل انتخابات ، وهو ما زاد الطين بلة كما يقول المثل، فتحويلات العمال نحو بلدانهم الأصلية آخذة في النقصان، وربما نشهد في القريب موجات عودة أو حتى حملات ترحيل..
إن أبعاد الكارثة تتجاوز بكثير الملمح الظاهر لفقدان الوظيفة واتساع نسبة البطالة، إن الأمر أخطر من ذلك، ومكمن الخطورة هو بالأساس في انهيار العلاقة بين العمل والدخل، بمعنى أن الإنتاج يزداد ذاتيا فيرتفع الدخل صاروخيا في اتجاه واحد دون الحاجة لعمل.
ما ذا يحدث إذا كان الإنتاج لا يحتاج إلى عمل ؟ انهيار العمل ، ثم انهيار كافة المجالات المرتبطة بلوازم ومعدات العمل وخدماته ، انهيار صناعات الورق والخدمات الملحقة، انهيار معدات المقاييس ، معدات الأشغال، القفازات ، وكل شيء يحتاجه العامل، كل شيء يحتاجه العامل ستنهار صناعاته وخدماته لأن العامل لم يعد موجودا، لقد خرج من المعادلة.
إن الأمر يحدث الآن، وبسرعة أكثر مما نتصور، وما سينجم عن هذه الوضعية هو ظهور طبقة ذات مداخيل متصاعدة باستمرار في مقابل طبقة أكثر اتساعا تنخفض مداخيلها وتنهار بشكل متواصل تحت ضغوط التكلفة المتزايدة للتعليم ، والتغطية الصحية ، وضرورات الحياة الأخرى ، وفي النهاية فنحن أمام فقراء يزدادون فقرا وأغنياء يزدادون غنى.. لم يعد هناك شيء اسمه العمال ولا الحركة العمالية ، هناك فقط مرتفعو الدخل ومنخفضوا الدخل، و هذا في الواقع يعيد الظاهرة العمالية إلى مضمونها الأصلي البسيط ، وهو الفقر، ففي انجلترا التي اصطنع فيها المصطلح كانت كلمة Labour في العصر الأليزابتي مرادفة تقريبا لكلمة الفقر قبل أن تؤدلج وتوظف في صراعات السياسة أثناء ماعرف "بتوري " و"هيج" ثم لاحقا بين العمال والمحافظين.. ومع ذلك فإنها في نهاية المطاف كما هي في بدايته هي مشكلة مداخيل غير مؤمنة ،أما اليوم فهي لم تعد غير مؤمنة فقط، إنها منهارة.
ما هو الحل المقترح ؟
مقاربة التنمية المستدامة صيغت في أهم أسسها الاجتماعية لعلاج هذا الموضوع بالذات ، أي اتساع الهوة في فوارق الدخل الناجمة عن النمو الاقتصادي المختل ، والهدف الثامن من أهداف التنمية يتحدث تحديدا عن نمو اقتصادي سليم والحق في عمل دائم ومحترم . والواقع أننا مادمنا قد أشرنا إلى ما نتصور أنه قطيعة بين العمل والدخل وأن القضية في جوهرها هي قضية مداخيل أكثر منها قضية عمال فإن أغلب أهداف التنمية المستدامة تمس الموضوع في الصميم وعلى رأس تلك الأهداف الهدف الأول: القضاء على الفقر المدقع.
إن سياسة ناجعة ومتواصلة لمعالجة فوارق الدخل هي صمام الأمان في كل الخطط التنموية القائمة والسير في ذلك الاتجاه يجب أن يكون موازيا لطموحات التقدم وحركة الإنتاج، فلا مجال للحديث عن تنمية مستدامة بدون مشاركة في النمو الاقتصادي وفي ثمرته أيض