لقد حكمت إمارة الترارزه أسرتان من عقب اعلي شنظوره ولد هدي ولد أحمد بن دامان. فبعد أحمد بن دامان، مؤسس الإمارة إثر معركة انتيتام سنة 1631، والمتوفى سنة 1636، تأمّر ابنه هدي ما بين 1636 و 1684، ثم تولى بعده الإمارة ابنه السيد ثم بعده اخوه أعمر آكجيل ليصل الحكم إلى اعلي شنظوره الذي تأمر من سنة 1703 إلى سنة 1726. وحسب محمد فال ولد بابه وولد أبو مدين فقد تأمر بعد اعلي شنظوره أخوه الشرقي ولد هدي، إلا أن المختار ولد حامدن وبول مارتي يحذفان الشرقي من لائحة أمراء الترارزه، علما بأن خلافة الشرقي لأخيه اعلي شنظوره، على شؤون الإمارة، خلال مقامه في المغرب بحثا عن السند ضد البراكنه، لا يرقى إليها الشك.
.
بعد اعلي شنظوره، بدأ عهد أهل أعمر ولد اعلي الذي تواصل لمدة 74 سنة (تزيد أو تنقص قليلا حسب الخلاف في تواريخ الوفيات). وقد تميزت إمارة أهل أعمر ولد اعلي بأمور كثيرة، من أهمها أنها لم تشهد انقلابا واحدا لا هادئا ولا دمويا، بل لم يمت من أمرائهم مقتولا غير واحد توفي في معارك خارجية (ضد تحالف بين إمارة البراكنه والدولة الألمامية)، كما أنها الإمارة الوحيدة التي لم تعتمد التوريث الأبوي (أي أن الإمارة وصلت من أعمر ولد اعلي إلى ابنه المختار، لكنها من عهد المختار تعاقبت بين الإخوة وأبناء العمومة (داخل أسرة أهل أعمر ولد اعلي) إلى أن تم الانقلاب على حكمهم.
أول من حكم من أسرة أهل أعمر ولد اعلي هو أعمر نفسه الذي مارس السلطة الأميرية ما بين 1726- 1756، تولى بعده الإمارة أبنه المختار ولد اعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين 1756- 1771، وتولى بعده أخوه اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين 1771- 1784 (قتله جيش المامي عبد القادر: أحد أمراء الدولة الدينية في فوتاتورو المتحالف مع إمارة البراكنه). تولى بعده الإمارة ابن أخيه محمد الجواد ولد المختار ولد أعمر، وذلك ما بين 1784- 1792، ثم تولى بعده الإمارة أخوه عاليت ولد المختار ولد أعمر في الفترة ما بين 1792- 1794، ثم تولاها بعده أخوه أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي المعروف بـ"أعمر ولد كمبه" الذي حكم ما بين 1794- 1800، وتوفي في زهرة العمر دون أن يترك أي وريث بالغ من جميع أفراد أسرة أهل أعمر ولد اعلي.
ثم يصل الحكم، في انقلاب أبيض، إلى أهل المختار الشرقي الذين عـُـرفت إمارتهم بـ"إمارة أهل محمد لحبيب".، وكان أعمر ولد المختار ولد الشرقي ولد هدي أول من حكم منهم في الفترة ما بين 1800-1829.
وكان امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي أول بالغ من أسرة أهل أعمر ولد اعلي يقود معارضة مسلحة ضد حكم أعمر ولد المختار (ولد الشرقي)، فحاول، خلال أيام مشهودة، استرداد الحكم، واستنجد في سبيل ذلك بحلفاء من داخل قبيلته، ومن أبناء عمومتهم أولاد دمان، ومن أصهاره إدوعيش خاصة في عهد الأمير محمد ولد امحمد شين.
وتولى الإمارة بعد أعمر ولد المختار ابنه محمد لحبيب الذي حكم في الفترة ما بين 1829-1860، وقتل من قبل أبناء إخوته في محاولة انقلابية فاشلة، ليتولى الحكم من بعده ابنه سيدي ولد محمد لحبيب الذي تأمّر في الفترة ما بين 1860-1871 وسقط قتيلا في انقلاب دبره أخوه أحمد سالم (الأول) ولد محمد لحبيب. وقد عرفت فترة إمارة أحمد سالم، الممتدة لثلاث سنوات، مناوشات ومعارك طاحنة مع أخيه أعلي (ابن اجّمبت: ملكة الوالو) انتهت بقتل الأول في شهر مايو 1873، ليستتب الحكم لأخيه الأمير اعلي ولد محمد لحبيب الذي قتل سنة 1886 في انقلاب دبرته جماعة من أولاد أحمد بن دامان من ضمنها أبناء أخيه خاصة أحمد الديد (الأول) ولد سيدي ولد محمد لحبيب ومحمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب. وهنا أخذ محمد فال ولد سيدي السلطة الأميرية سنة 1886 في جو مضطرب لم يشهد استقرارا حتى قتل بعد أربع سنوات (سنة 1890) على يد ابن عمه أحمد سالم (الثاني) ولد اعلي (الملقب بياده)، وقيل ان محمد فال تنازل عن الإمارة لعمه أعمر سالم قبل مقتله، وإن تأكد ذلك يكون أعمر سالم قد حكم من 1890 إلى حين مقتله في إحدى معارك الصراع على السلطة سنة 1893. ثم استتب الأمر للأمير أحمد سالم ولد اعلي (بيّاده) من 1893 حتى اغتيل سنة 1905 على يد جماعة يقودها أحمد الديد (الثاني) ولد محمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب.
في هذه الفترة بالذات دخلت الإمارة في العهد الفرنسي، فتأمر أحمد سالم ولد ابراهيم السالم وأحمد الديد ولد محمد فال بالتزامن تقريبا، حتى توفي أحمد سالم سنة 1929، لتبقى الإمارة عند أحمد الديد ولد محمد فال ولد سيدي حتى يوم وفاته سنة 1944، ويرثها منه ابنه محمد فال (ولد عمير)، ثم تعود لعقب أحمد سالم ولد ابراهيم السالم (ممثلا أولا في احبيب ولد أحمد سالم).
في هذه الظروف، كانت المصالح الاقتصادية، المتمثلة في تجارة الصمغ وما تدره من ضرائب، وفي الإتاوات والإكرامات الممنوحة من قبل الفرنسيين والوسطاء التجاريين، قد طغت على كل الجوانب الأخرى، فتفكك، شيئا فشيئا، حلف أهل أعمر ولد اعلي تبعا لموازين القوة، وقلّ عددهم هم أنفسهم، ولم تنجح محاولات امحمد ولد اعلي الكوري في استعادة السلطة بالقوة، إلا أن أهل أعمر ولد اعلي، رغم كل ذلك، ظلوا يتمتعون بوزن كبير وبمكانة قوية جعلت حضورهم في الإتاوات والإكرامات بارزا، بل ظلوا يرفضون التنازل عن نصيبهم تحت أي ظرف. في هذا السياق يظهر الشاب المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري الذي ترك له والده أمجادا داخلية، وعلاقات كبيرة خارجية، وأموالا طائلة في عاصمة المصالح الفرنسية الإفريقية: سان الويس.
لقد مات عنه والده وتركه يتيما، فتربى في سان الويس (اندر) حيث عقاره وأمواله، وحيث عايش الفرنسيين (وكان يتكلم الفرنسية بطلاقة، كما كان يلبس الزي الفرنسي بإتقان، ويضع ربطة العنق تماما مثلما يضعها الأوربيون). وقد وصفته وثائق المستعمر بأنه شاب وسيم ذو طباع حضرية راقية لا يتحلى بها أي بيظاني حينها.
وكان هذا الشاب، المولود بين 1810 و1815، يسعى لاسترداد السلطة على خطى والده امحمد ولد اعلي الكوري وأبناء عمومته أولاد أعمر ولد اعلي الذين لم يبق منهم أي بالغ عندما توفي آخر أمرائهم أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي الملقب أعمر ولد كمبه. إلا أن جملة من الظروف لم تساعده في مسعاه، من بينها:
أولا: صغر سنه، فقد بحث عن الإمارة وهو بعد لم يبلغ الـ 18 من العمر.
ثانيا: تفكك القوة التي كانت تساند ذويه من أولاد أحمد بن دمان وأولاد دمان وأخواله إدوعيش الذين أتوا مرتين بخيلهم ورجلهم وقاتلوا في أقصى الجنوب، لكنهم فشلوا في استعادة الحكم لابن ابنتهم وإن انتصروا في إحدى المعركتين اللتين شاركوا فيها إلى جانب والده امحمد وأنصاره الدامانيين: معركة أفجار سنة 1817 ومعركة أباخ (الصطاره) في ذات السنة 1817.
ثالثا: ميول الفرنسيين إلى الأسرة الحاكمة الجديدة لاعتبارات من أهمها أن مصلحتهم تقتضي التعامل مع جهة واحدة وزعيم واحد، بالإضافة إلى ما استشفوا من قلة حظوظ الأسرة الأميرية الأولى في استرجاع عرشها.
رابعا: قبوله للتنازل عن المطالبة بالإمارة (لفقدان السند الداخلي والخارجي)، ورفضه المطلق البات للتنازل عن المصالح والإكرامات التي كانت من حق أجداده على ضفة النهر (كالإتاوات، والتعويضات عن توقف القوارب التجارية والمزايا المادية التي تمنحها سلطات سان الويس)، الأمر الذي شكل مساسا بهيبة الإمارة وبجزء من سلطاتها وبعض مصالحها الحيوية، فكان لابد لها أن "تتصرف" بشكل أو بآخر، خاصة أن الأمير الشاب يعتبر، وربما يعتبر بعض أبناء عمومته المباشرين، أن التنازل عن المزايا الخاصة بهم سيكون بمثابة التخلي عن جزء آخر من أمجادهم أو عن النصيب المتبقي من سيادتهم (بعد أن أجبرتهم الظروف على التخلي عن السلطة).
خامسا: المؤامرات الداخلية والشراك التي وضعت للشاب فوقع فيها دون أن يحسب عواقبها، ومن أبرزها عملية قتل التاجر جاك موليفار: صديق والده وصاحب المكانة الكبيرة لدى الفرنسيين، ما جعل فرنسا تعتبر أنها إن لم تقتل قاتله ستخسر هيبتها وسمعتها لدى سكان المنطقة، فكان لابد لها من استدراج الشاب إلى اندر لتجعل منه مثالا تروع وتردع به كل من يحاول المساس بمواطنيها وحلفائها. وعند القراءة المتأنية لما بين سطور الوثائق الفرنسية، نكتشف أن الإمارة شاركت في عملية الاستدراج تلك لأن الشاب أظهر قدرات فائقة على المنافسة، ولأنه ينبئ بمستقبل واعد قد يهدد أركانها ولربما تمكن، بحنكته وشجاعته وعلاقاته وثرائه المادي وما لديه من مقومات التفاهم مع الفرنسيين، من انتزاع السلطة وإعادة الإمارة إلى نسختها الأولى.
إذن قـُتل التاجر الخلاسي سنة 1831 على يد المختار ولد أمحمد ولد إعلي الكوري، أو على يد أبناء عمومته أولاد أعلي بوشارب، أو على يدهم جميعا (انطلاقا من شهادات مختلفة تم الإدلاء بها خلال جلسات المحاكمة المنعقدة في سان لويس سنة 1832)، أو قتل بحضور الشاب المختار وتمت فبركة التهمة لجره إلى المشنقة (فهو يحرج الإمارة لأنه يطالب بنصيب من الدخل، ويحرجها لأنه مهيأ لقيادة التناوب السياسي، ويحرج فرنسا لأنه يفرض إتاوات وإكرامات مضاعفة على اعتبار أنها تدفع نفس الإتاوات والإكرامات للإمارة، ويحرجها لأنه يشكل قطبا ثانيا، وفرنسا تعتبر أن مصالحها تقتضي التفاوض والتعاطي مع قطب واحد). وهكذا وجهت له التهمة، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ فيه الحكم رميا بالرصاص، ليكون بذلك أول بيظاني يحاكم محاكمة عصرية مكتملة الأركان: من رئيس محكمة، مرورا بالقضاة، فممثلي النيابة، إلى المحامين، والشهود، وبذلك يكون أيضا أول بيظاني يصدر عليه حكم بالإعدام وينفذ فيه رميا بالرصاص. علما بأن بعض أعضاء المحكمة أصيبوا بحزن شديد وإحباط كبير إثر تنفيذ الإعدام في الشاب المختار لأنه، بالنسبة لهم، أعدم على خلفية أحداث وقعت وهو بعد لم يصل سن البلوغ القانوني (كان سنة 1931 في حدود الـ 16 من العمر، وإن حاول رئيس المحكمة تقديم أدلة غير مؤصلة على أنه في حدود الـ 21 سنة)، كما يعتبره بعض الفرنسيين من أقرب البيظان إلى نمط حياتهم العصرية، وأنه يتكلم لغتهم بطلاقة، ويمكن التفاهم معه أكثر من غيره، بالإضافة إلى أنه ضحية لمؤامرة تروزية-فرنسية بشعة لم يفهم أبعادها لصغر سنه.
ومهما يكن، فإن ملفه يظل نقطة سوداء في جبين العدالة الفرنسية، سيجد، في يوم من الأيام، من يرفع اللبس عن قضيته ويفكك ألغازها وطلاسمها. كما سيظل مفخرة تروزية لأنه، وإن أنكر التهمة، رفض التنازل عن مصالح ذويه، ورفض المساومة في حقهم على المراسي والمراكز التجارية، ورفض الخضوع لسلطة لا تقبل به شريكا، وذهب إلى مكان الإعدام متماسكا بخطى واثقة حسب شهادات الفرنسيين أنفسهم.
محرر زاوية "تاريخ مغيّب"في صحيفة ناواكشوط
الحلقة السابعة من تفاصيل الملف حسب ترجمة الأستاذ سيدي ولد متالي
.. ألا تُعبر الشهادات التي توصلنا بها آنفا عن الحقيقة المطلقة التي حدثتكم عنها من قبلُ؟
و لكن أي نتيجة يحصدها قائلوها عندما يقولوا غير ما قالوه؟ .. لا شيء، سادتي، سوى أنهم فهموا جيدا واجبهم.. و أنهم بتعبيرهم دون خوف و بكل جهد، ما زالوا يحتفظون رغما عنهم بشيء آخر في ضمائرهم..
هذه مأساة، دون شك.. و لكننا نفضل حقيقة مُطلقة تم التعبير عنها دون خِشية على حقيقة فيها من المجاملة .. و تخلو من كل عفوية من أجل تأمين كل ما يمكن من الحقائق..
مع أن ما يظهر لنا هنا أنه الحقيقة المطلقة..لأن من أفادوه كانوا قد أرادوا، لا شك في ذلك، أن يتمكنوا، و بكل وعي، أن يفيدوا العكس.. هو أنه خلال سنة 1822 ظهر لهم أن المختار كان عمره ما بين 11 إلى 12 سنة.. و قال آخرون إن عمره كان على الأقل 10 سنوات.. مما يفرض أن يكون له اليوم 20 أو 22 سنة من العُمُر.. و أنه، أيضا، كان له سنة 1825 ، حسب الشاهد " بوينشو" 13 سنة .. و كان يتكلم و يفكر و يرد الأفعال بحكمة تامة.. و حسب الشاهد" آرتيك" فإنه كان له سنة 1828 حوالي 15 سنة على الأقل.. فهذه حقيقة مطلقة لدى اثنين من سكان سان لويس الذين عرفوه جيدا و تابعوا تقدم سنه من عام لآخر.. مما يستشف منه، حسب رأيهم، العفوي، أن سن المختار ستكون الآن ما بين 20 إلى 22 سنة..
و هنالك دليل آخر شديد الوضوح و هو ما يستشف من اعتراف المتهم نفسه..فقد صرح أنه رافق والده إلى إدوعيش.. و كانت معه أمه و شقيقه و شقيقته .. و هنالك شهود عديدون لصالحه و لصالحنا صرحوا أن الفارق الزمني بين كل اثنين من الأولاد الثلاثة هو سنتان على الأقل.. و من المعروف أن امحمد ذهب إلى إدوعيش، للمرة الثانية، سنة 1829 .. فكان عمر المختار إذ ذاك ما بين إلى 5 سنوات مما يفرض أن يكون عمره الآن 18 سنة...
و نحن يكفينا أن يكون عمره 16 سنة و يوما واحدا عند ارتكابه الجريمة.
و خلاصة الأمر أنكم إذا تفحصتم هذا الموضوع ستجدون أن المختار كان عمره 16 سنة عند ارتكاب الجريمة.. و ستجيبون بالنفي و تقولون إن المختار كان عمره أزيد من 16 سنة.... و أكررها: 16 سنة و يوما واحدا.. و هو كل ما ينبغي أن يثبته الاتهام..
و مع ذلك، إذا كان هنالك بعض الشهود كثيرو الدقة، في ما يبدو، و الذين تركوا لدينا انطباعا إيجابيا..و تركوا تأثيرا أكثر إيجابية في أذهانكم..و هذا سيكون إهانة لكم.. في أكثر من واحد من تقاريركم.. فينبغي لكم أن تطرحوا بعد قضية الإدانة قضية سبق الإصرار.. بدل أن تشُكوا في نتائج إيجابية..
و انطلاقا من كل هذه الدلائل فإننا نطلب باسم الملك أن تقبل المحكمة ما يلي:
1 ـ إعلان أن المتهم المختار نجل امحمد بن إعلي الكوري أصبح مذنبا بالتدبير و التمالؤ في القتل العمد مع سبق الإصرار.. ضد شخص ماليفوار..
2 ـ إعلان أن المسمى المختار لديه من العمر 16 سنة و تزيد في الفترة التي ارتكب فيها الجريمة..
3 ـ تطبيق المواد 59 و 60 و 295 و 296 و 302 من القانون الجنائي و المادة 12 من ذات القانون المعدل بالبرقية الوزارية بتاريخ 16 يونيو 1824 و بالمواد 368 و 376 من المسطرة الجنائية في السنغال.. بأن يدان المختار ولد امحمد ولد إعلي الكوري بعقوبة الإعدام.. و أن يكون الإعدام رميا بالرصاص حتى الموت.. و أن يدان، فضلا عن ذلك، بدفع تكاليف المحكمة.. و أن تصدر الأوامر بأن ينفذ ذلك الحكم حسب اجتهادنا..
و بدوره تناول الكلام السيد تايلهاردات فاييت، ضابط الحالة المدنية و عضو لجنة العقارات الشاغرة.. المعين رسميا من طرف الرئيس من أجل الدفاع عن المتهم بما يلي:
" لو لم أكن مقتنعا تماما بحيادكم و تبصركم، و لو لم أكن على يقين من أنكم عندما جلستم على مقعد العدالة تركتم عنكم جانبا كل شعور غريب على الإنصاف التام.. و لو لم أكن مقتنعا، من خلال معرفتي الشخصية لكم، بعدالة ما سيصدر عنكم من أحكام، أقولها صراحة، لكنت منزعجا من النتائج الوخيمة التي ستسيطر على كل على كل جوانب هذه القضية المؤسفة.. و كنتُ خشيتُ أن أمنح دعمي المتواضع لمتهم يُقال مسبقا إنه مذنب.. لكن ذلك الرعب و تلك الوساوس زالت أمام ثقتي بكم..و سأقوم بأداء المهمة التي كلفني بها رئيس هذه المستعمرة.. فإذ انطلقتُ من تلك الثقة في حزمكم الثاقب، سادتي، فإني سأمتح كل طاقاتي من أهمية هذه المحاكمة و من موقف المتهم..
فإذا كانت هناك قضايا تُذيب القلب و تدفعه إلى الانتقام فإن هناك أسباب أخرى تدعو إلى الشفقة.. لأنه إذا افترضتم أن المختار بريء{ و هو يستحق عليكم، حتى الآن ذلك}.. فهل تعرفون تعاسة أشد من تعاسته..
لقد عانى ماليفوار لحظة و لكن المختار كان مصيدة للعزلة و الاحتقار في أقوى مظاهرهما تمزيقا..
فالقانون يُشهر براءته.. و لكن البعض يظن أو حتى يؤكد إدانته.
فهو الغريب المدفوع بقوة نصائح ملك بلده و بدافع براءته الذي جاء ليعتذر.. فحُرم الحرية.. ذلك الكنز الثمين الذي يبحث عنه كل البشر.. و المحبب إلى بني فئته البدوية.. مُنع في سجنه من تضامن ذويه معه و من تضامن أصدقائه.. فحياته تتمزق أمام عاديات الزمن في كل ما يطمح له.. فأني أدار بصره لا يلقى إلا نظرة اتهام..
أيها السادة.. أليست هذه حياة مُرعبة؟ و ههل استطعتُ بكل مجهوداتي أن أخفف من هذه المعاناة؟
ينضافُ إلى ذلك أنه كلما كانت التهمة خطيرة.. كلما ضوعفت الجهود لمحاربتها.. بيد أنني، دائما، سادتي، أعوِل على حكمتكم و تبصركم.. و يصعب عليَ أن أقف في وجه جهاز الإدارة العمومية التي استمعتم إلى اتهامها القاسي ضمن هذا النقاش الزاخر بالانضباط.. و لكن حماسي يستُر على وهَني و تساهلكم سيعوض ما أشعر به من النقص..
و سأبدأ بنقاش كلا التهمتين و الأسباب المحتملة التي قادت إلى عمل المتهم.. ثم أصِل إلى إشكالية سنه..
قيل لكم إن طموح المختار و رغبته الجامحة في استعادة ملك{ آبائه}الممزق بمفعول حربٍ أهلية غريبة هي الدافع إلى التصرفات الصادرة عنه.. و لا شيء أشد من رفضنا لذلك جملة و تفصيلا..
فبعد وفاة والده امحمد ولد إعلي الكوري جاء أعمر، ملك ذلك الوقت في ترارزه ليستوليَ على السلطة الأميرية بقانون عُرف الإمارة المتمثل في أنه عند موت الأمير الذي له أبناء لم يبلغوا سن الرشد تُسند الإمارة إلى أسن أمراء الأسرة.. و عندها ينفصم خط توريث الإمارة..
و لما كان المختار صغير السن في ذلك الوقت فإن ذلك مما سيمنعه من خلافة أبيه.. مُذعنا لذلك العُرف.. فاعترف بإمارة أعمر.. و عند موت أعمر جاء ابنه الأسن، محمد لحبيب ليستوليَ على الإمارة.. فصار محمد لحبيب ملكا.. و استمر المختار في الاعتراف بالملك له.. و لكنه بقي الوريث الشرعي للإمارة.. إذا لم يكن لمحمد لحبيب ابناء.. فلو المختار يريد الاستيلاء على السلطة عن طريق إضرام حرب أهلية لما انتظر ثلاث سنوات من 1828 إلى 1831 من اجل أن يبدأ.. فكان بإمكانه أن يبدأ بذلك ظاهرا أو عن طريق المؤامرات من أجل عزل محمد لحبيب من الإمارة.. و لكن أبى عليه ذلك إيمانه بالمبادئ.. فعاش علاقة وطيدة مع هذا الأمير.. و لم يُسجل التاريخ أي خلاف بينهما..
و لما كان الأمر، سادتي، كما برهنتُ عليه فكيف يكون هذا الدافع هو السبب وراء هذه الجريمة التي نتهمه بها..؟
فأين يكمن هذا السبب الذي دفعه إلى ذلك؟ لأنه لا يمكن أن نقوم بجريمة من أجل القيام بالجريمة فقط.. فلا بد من هدف في ذلك.. و إذا لم نجد ذلك فإنني أستطيع أن أبرهن أن أبرهن أن المختار لم يقم بهذه الجريمة.. وهذا ما سيوصل إليه نقاش الوقائع..
وبعد أن بينتُ أن هذا الطموح لم يكن الدافع لدى المختار و أنه هو السر الكامن وراء ما يتهم به.. لننظر الآن إلى ما وقع على ضفة النهر في اليومين أو الثلاثة السابقة للجريمة..
فقد تم سجن إعلي ولد بوشارب.. الأمير المتنفذ.. خال الأمير{ محمد لحبيب} و خال المختار.. و دام سجنه ليلة كاملة.. و هذا، على بساطته، يُعد احتقارا له.. فالسجن لدى مجتمع البيضان يعد إهانة عظيمة.. بل أذهب إلى أبعد من ذلك لأقول إنه حط من شرف الأنسان..
فعندما التقاه " بلغرانه".. الذي استطاع، بعناء كبير، أن يصلح ذات بينه مع قائد المركز.. كما صرح لم هو نفسه بذلك.. و لكن الذي شاع في العامة هو سجن إعلي ولد بوشارب و ليس خبر المصالحة.. و صرح لكم بلغرانه أن أبناء إعلي ولد بوشارب ليسوا على علم بخبر الصلح و هو نفسهم الذين كانوا مع بلغرانه.. و ارتُكبت الجريمة يومين أو ثلاثة بعد ذلك.. هذه، سادتي، الأسباب الحقيقية لهذه الأحداث التي وقعت.. و ستقنعكم البقية أنه ليس هناك سبب آخر.. و بالفعل، فإن أبناء بوشارب كانوا أكثر تأثيرا من غيرهم في ترارزه.. و هم أكثر تأثيرا من المختار....
يتواصل...