أحقية شركة البث الإذاعي والتلفزيوني في الحصول على مستحقاتها التي تطالب بها القنوات والإذاعات المستقلة، أمر لا ريب فيه ولا مراء، ومطالبتها للمؤسسات بالوفاء بالالتزامات المترتبة على عقود البث معها، واردة لا شيىة فيها
.
لكن تعاطي الدولة ممثلة في شركة عمومية مملوكة لها مع وسائل الإعلام المستقلة بمنطق التاجر الذي لا يرقب إلا ولا ذمة في الشأن العام، ولا في قيمة الخدمات العمومية التي تقدمها هذه القنوات، أمر غير مستساغ وغير مقبول.
فحين يتوقف بث أكثر من نصف القنوات التلفزيونية المستقلة من أول جيل تجربة لحرية الإعلام السمعي البصري المستقل في بلد تتباهى حكومته بتصدره للعالم العربي في حرية الصحافة، وهي صدارة تعود في جزء كبير منها إلى وجود هذه القنوات والإذاعات، يلحق ذلك ـ بحساب الربح والخسارة ـ من الضرر المعنوي بسمعة البلد وحرية الصحافة فيه أكثر مما يلحقه بها تأخر أو إلغاء ديون لصالح شركة البث.
ما معنى أن تستلف الدولة عن طريقة شركة البث للقنوات بمنطق "سلف بنقصان"، حيث تواصل السماح لهم بالبث على ضوء عقود الاتفاق المبرمة معهم، لتزيد من حجم الديون عليهم، لكنها تنقص أربع ساعات من سلفة البث اليومي هي ساعات الذروة في المشاهدة (من الثامنة مساء وحتى منتصف الليل)، في عملية يتضح بجلاء أن الهدف منها إلحاق الضرر البين بتلك القنوات وإذلالها، بل هي ابتزاز تجاري محض، لا يراعي قيم الجمهورية ومعنى أن يكون الدائن هو الدولة، والمدين وسيلة إعلام خصوصية تقدم خدمة عمومية لا تعوض.
أعتقد أن الأزمة الحالية بين الدولة ممثلة في شركة البث الإذاعي والتلفزيوني ، والقنوات الفضائية ومن ورائها الإذاعات التي تنتظر دورها قريبا بعد وصول إنذارات بالتسديد إليها، توضح بجلاء ضرورة إنهاء حالة البرزخ التي يعشها الإعلام السمعي البصري المستقل في البلد، فلا هو مُد بأسباب الحياة والاستمرارية ليؤدي دوره المنشود، ولا هو أجهز عليه وقضي أمره، فليوم إما أن يكون وإما أن لا يكون، وعلى الدولة أن تحسم قرارها وتدقق في حساباتها.
ويبقى السؤال الأبرز، ما البديل الذي ستوفره الدولة حين تغلق هذه القنوات والإذاعات، من سيقدم تلك الخدمة العمومية التي تقدمها التلفزيونات والإذاعات الخصوصية، على علاتها وأخطائها، ممثلة في السماح لكل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والثقافي بالتمظهر والبوح متى أردوا وكيف شاءوا، كيف ستحافظ الدولة على توسع الطيف الموريتاني من ثلاثة ملايين نسمة إلى حدود أربعين مليون نسمة، تتابع اليوم تلك القنوات في منطقة الطوق الموريتاني والعمق الاجتماعي، أين سيمارس خصوم النظام حقهم في نقده، وأين سيقدم النظام خطابه في بوتقة لم تتصلب شرايينها باللغة الخشبية لعقود طويلة.
أعتقد أن وقفة تدبر بسيطة، والقيام بعملية حسابية براغماتية، ستوضح بجلاء حجم الخسارة التي تتكبدها الدولة وهي تُقدم على قطع بث القنوات أو توزيع جرعات توقف البث عليها إذلال وإمعانا في التحكم والابتزاز، فالخسارة المعنوية أحيانا لا تعوض بلغة الأرقام الحسابية.
ولإن كان للدولة الحق في تحصيل ديونها، فإن للبلد على الدولة حق في الحفاظ على سمعته وحرية الأعلام فيه، وللإعلام المستقل حق في تقدير خدماته العمومية ومساعدته على أدائها، فحين تتصدر موريتانيا العالم العربي في حرية الصحافة وتحافظ على مستوى الحريات فيها، فإن مكسب الدولة منها لا تعادله ديون شركة البث الإذاعي ولو جاؤوا بمثله مددا، ولو صانت القوانين كل أنواع الحريات وكفت الدولة باسها عنهم، ولم يمكن لصناع تلك الحريات، وسلبوا وسائل تجسيدها، فإن تلك الحرية تبقى خداجا لا تبارح الرحم إلا إلى القبر، حتى قبل صرخة الميلاد.
من صفحة الكاتب محمد محمود ولد ابو المعالي رئيس اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الموريتانية