دقة - حياد - موضوعية

رحلة قصيرة عبر قصة طويلة/ محمد فال ولد سيدي ميله

2025-08-11 21:45:45

كان يوم أمس مميزا بكل معاني الكلمة: تشرفتُ بصحبة صديقي التِّرْب المختار ولد بوزفره، وصديقي "الأكبر" أحمد سالم ولد بوبكر المعلوم، وشيخنا محمدن ولد الشيخ ولد الكريم. قادتنا الصدفة الجميلة في رحلة إيكيدية تفوح كرماً وتعبق تاريخاً.  توجهنا من مدينة الصنكه العريقة إلى قرية أبكاك المحروسة حيث شنّف القريض الجزل آذاننا، بشقيه الفصيح واللهجي. كان الترْب والأخ "الأكبر" يزوران القرية، العادل أهلها، تمثيلا لمجموعتهما القبلية، وتأكيدا لعلاقات تاريخية بينية ضاربة في القدم، بينما جاء شخصي المتواضع تلبية لدعوة من ابن معلمي وشيخي، الأديب الأريب، باركلل ولد دداه ولد عبد الملك. لا شك أن أصحاب المنصة ظلموني، شيئا ما، بترحيبهم بي ضمن وفد القبيلة! أو ظلموا وفد القبيلة حين ضموا إليه متمردا لا يعترف ببعض البنى الاجتماعية التقليدية، رغم أهميتها كتراث وكآثار. ذلك ما عبرتُ عنه لجليس لا يُمل، كتب الله أن يكون من نصيبي في تلك السويعة النفيسة. إنه المثقف الكيّس، الدكتور عبد الله ولد محمدن ولد الكريم.

التقيت، في قرية أبكاك، المليحة البهية، بأصدقاء وأحبة غدَرَ بهم سيفُ النأي الخؤون وشطّت بهم صروف النوى، كما التقيت هناك بأدباء، ومثقفين، وساسة، وصلحاء.

وفي قرية أبكاك، التقيت بالحسين "هذا"!. ولولا الإكراهات النحوية، لنصَبْتُ "الحسين" على الاختصاص، أو لرفعته فاعلا لكل خير وعلم وأخلاق. كان لقائي بالحسين، ومحنض بابه ولد الشيخ، وابن أختهما الخلوق، المداني، جالبا لكل معاني السمو. بادر محنض بابه، بحلاوة طبعه المعتاد، إلى منحي الإحداثيات الدقيقة، في مثوى البعلاتيّه الطاهر، لمن قضوا نحبهم من أسرتهم الكريمة. كان يشرح لي كيف أنهم جار، وأي جار!، لمُقَل لنا، أحلى من الشُّهد، طمرناها، كرْهاً، تحت ذات الثرى الفردوسي الأمين.

مرّ الوقت بسرعة البرق. كل كلمة من صديقي الحسين ذكرتني بما كان يتحفنا به، في غابر الزمن الإعلامي العافي، من نتف تاريخية ولغوية واقتصادية ومنطقية وفلسفية. كان، بالفعل وبالقوة، "حبيب" النسخة العربية من البيان والقلم والعَلَم والحرية. ذهب معنا الحسين، تحت لفح الشمس الحارقة، ليودعنا بأريحيته المشهودة وتواضعه الجم، وكلي أسى وأسف على أنّ يوم أبكاك كان قصيرا كزمانٍ، لكنه كان طويلا كقصةٍ بدايتُها مستهل التسعينات ونهايتها نهايتنا... رغم رحمة الأبكاكيين، لم يكن الزمن الأبَكاكي رحيما إذ لم أستطع أن أروي ظمئي من شيخي الحسين بن الشيخ بن محنض!. فلنستسلم لقانون الصدَف، ونرجو الله أن يمنّ به علينا أياما، وأياما أُخَر.

 

لا شك أن الجو، في قرية أبكاك الوديعة، كان لطيفا، تطبعه كل المعاني الجليلة لمرابع إكيدي. جاء الناس من كل حدب، رجالا وعلى كل ضامر. كرَمُ الضيافة نلحظه على كل طلعة ومُحَيّا. جئنا متأخرين، وكنا أول المغادرين لأن برنامجا طويلا كان ينتظرنا، فمن أبكاك المحروسة، ركبنا "الوجناء"، وتوجهنا شمالا إلى قرية الدوشليّه حيث العلاّمة الزاهد، والصوفي الفريد محنض بابه ولد امّين. وفي حضرة "لمرابط"، طاب اللقاء، بلا ميعاد، مع حفيديْ الولي الفهّامة حمدًا، الفتيَيْن اللوذعييْن، الدِّي والنمْ.

ومن الدوشليّه، توجهنا إلى مدفن ابّير (حيث أكابر أولاد سيدي الفاللي وثلة من أهلنا). أرشدنا محمدن إلى "ديار" أهل اعلَيّ، وأهل سيدي يعرف، وأهل الهلال، و"ديار" صلحاءِ وأكارم أهل التاكلالت. كان المنظر مهيبا، مفعما بالعبرة والموعظة.

من أبكاك إلى الدوشليّه، ومن الدوشليّه إلى ابّير، بعد جولة إيكيدية مباركة، خاطفة بمفهوم الزمن وطويلة كملاحم الإغريق، عُدنا أدراجنا إلى مسقط الرأس: مدينة الألغاز والشفرات و"العيش الصالح"، مدينة المذرذره الحبيبة.

تابعونا على الشبكات الاجتماعية