بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين ثم الصلاة والسلام على أفضل خلقه أجمعين وبعد فإنه بالجملة سلام وتقدير ومودة من كاتب الحروف إلى أخيه وصديقه العزيز أدام الله عزه عبد الرحمان بن حمزة موجبه أنني اطلعت على البحث القيم الذي شرفتموني بقراءته بغية إبداء ما قد يثيره لدي من ملاحظات وعملا بسنة التشاور العلمي من باب حسن ظنك ومن لطفك أحسن الله إليك..
ونظرًا إلى أن الصداقة تقتضي الصدق وأن الاستشارة تتطلب الأمانة فإنني حرصت على أن أبوح بما خطر ببالي إبان مطالعتي لسيرة أسرتك ولما تيسر من أخبار مسارك الشخصي ولعل ذلك ما جعلني بحكم ما أعرف عنك مسبقا أتسرع في تعديل العنوان الأصلي وذلك قبل الاطلاع على المضمون فاقترحت بمجرد النظرة الأولى أن يكون تاريخ اولاد امبارك : الجذور والرحلة في سطور. .
والحقيقة أنني مذ رأيتك في يوم مشهود تقلبت فيه أحوال الدنيا تقلب الأوراق ماسكا بالهاتف لاستدعاء وزراء الحكومة التي كانت يومئذ قيد التشكيل تيقنت أن دنيا أولاد أمبارك التي تنتسب إليها أصلا قد زالت إلى الأبد وذابت في الدولة الوطنية التي سعينا كل من موقعه ومن مواقفه إلى ترسيخها في الأذهان..
و رغم ذلك احتفظت في أعماقي بصورة نمطية لا يستطيع غبار الزمان إخفاءها مفادها أن مدير الديوان الذي نفذ بجدية ملحوظة التعليمات السامية لسيده الجديد يخفي حكاية طويت لشخص تقاذفته الأقدار يسأل نفسه في تلك اللحظة الحاسمة من مساره المهني: إلهي بأي ذنب تم تعييني في هذا المنصب ؟
ولعل لذلك التساؤل الذي يواجه عادة الموظفين السامين في أوقات التغيرات الجذرية للنظام الحكومي ما يزيده إلحاحا حين يتعلق الأمر بمن خدم الدولة مثلكم في ريعان شبابه وشب في خدمتها ثم يجد نفسه ذات لحظة إسهال سلطوي ضمن لائحة الموظفين الممنوع استخدامهم وربما المغضوب عليهم....
أكاد أجزم أنك تذكرت في تلك اللحظة ومن حقك أن تتذكر لدغة الأفعى التي باغتتك ذات مساء من عهد طفولتك البدوية على مقربة من "تاقطافت" في ضواحي تامشكط لكنني على يقين أيضا أنك تذكرت تلاوة القرآن العظيم التي صاحبك بها أهلك وأهل الحي كلهم منقولا إلى المركز الصحي بمشروع المدينة الذي لم يكتمل حتى اللحظة... .
كما أنني لا أستبعد أن تكون ذكريات زمان مضى ولم يمض قد صعدت حينها إلى منبر حديث النفس في ذهنك الذي طالما تجاذبته أحوال مسارك المتغير ولم لا وأنت الذي أدركت أطال الله بقاءك عهد السيادة المطلقة لحي الرحل حيث أبصرت النور فيه حين كانت جماعة أهل الحل والعقد من عشيرتك تنظر بأعين الريبة إلى مشروع الدولة المتمثل في مدارسها المتنقلة وتحديدا في مدرسة حِلَةِ أهل جَدُو التي قال فيها معلمك الأول أحمد بن حكي رحمه الله :
إن الــمــــــدارس إذا مــــا جــــــدوا وجــــد والــــــد وجـــــــد جـــــــــد
لــم يـبـلـغــــن هــزلــهــم والـجـــد مــــدرســـــــة حــلـــــة آل جــــــدو
ولعلك في تلك اللحظات تذكرت أيضا مبلغ الحكمة التي عبرعنها الأمير الكفية ولد بوسيف بقوله :
مَـحَـــــــدْ الـدَنْــــيَ مَـــايْــــــــــلَ شَــــــوْرَكْ وَاعْـلِـيهَــــــا مَــايَــــــلْ
أعْــــــرَفْ بَـعْـــدْ أنْـهَـــا زَايْـــــلَ وَانـتَ وَيَــــاهَــــــــــا زَايَــــــــــــلْ
قد يكون من الصعب على من نشأ في الحي (لَفْرِيكً) وتلقى تعليمه الابتدائي في خيمة تتنقل معه أن يتجرد من وطأة الفصيلة التي كانت تؤويه لذلك أتفهم جيدًا أنك رغم ما عرفت شخصيا فيك من اندفاع صادق في المشروع الوطني الذي خدمته بحكم انتمائك لسلك الموظفين تحافظ على النهج التقليدي المتمسك بأصولك الأسرية الضاربة في أعماق تاريخ هذه الربوع ليس فقط كما ذكرت عملا بمقولة تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم التي وردت في الأثر المبارك وإنما في اعتقادي لأنك تشعر من باب "وجب قضاء فائتة" برسالة تعين عليك إيصالها في أكثر من مناسبة درءًا لما فسد على ألسنة أشباه الإخباريين "ألْمَتْغَشَمْيِينْ" من الروايات بخصوص هويتك وجلبًا لما قد ينفع الناس من تصحيح في محله لحديث بعضهم عنك...
قد يستنكر البعض من منظور "تقدمي" على خدم الدولة الموريتانية من أمثالك البكاء على أطلال النظام العشائري البائد وقد يرى بعضهم وفقا للتنميط الوظيفي في المجتمع الأهلي في تمجيد ابن الزاوية لفرسان الحلة تمردا في غير محله وعموما قد يقول أهل هذا الزمان إن خوضك بعلم الأنساب حديث في غير زمانه...
ليقولوا ما أرادوا لقد سطرت بعفوية صادقة حكاية موريتاني أصيل وهي حكاية تشكل نموذجا واقعيا لحكاية الكثير من الموريتانيين الذين شهدوا على عصر القبيلة في أوج عزها وصاحبوها في محاذاتها بصعوبة مازالت بادية للعيان لعصر دولة المواطنة وكأنك في حديثك الشيق تتمثل بحال الأديب الفرنسي الشهير شاتوبريان حين يقول في ذكريات ما وراء القبر: "التقيت بذاتي بين قرنين فوجدت نفسي كما لو كنت في ملتقى نهرين فغصت في المياه المضطربة مبتعدا بأسف عن الشاطئ العتيق الذي ولدت فيه وسابحا برجاء الي شاطئ مجهول..".
إن في حكايتك الشخصية عبرة لمن أراد أن يفكر بجدية في مسيرة الدولة الموريتانية التي وضعت أسسها في مجتمع قبلي حتى النخاع ولما دخلت في بطونه أرادت التخلص منه ولم تستطع. .
ثم إن في هذه الحكاية درسا تطبيقيا لتاريخ القبيلة ولمفهومها.
فمن خلال عرضك لتراكم الأنساب التي انصهرت رغم اختلاف أصولها في بوتقة واحدة ضمن مجموعة الاقلال يدرك القارئ بسهولة إن القبيلة لا تعني بالضرورة وحدة النسب وما يترتب عليها من التعصب وإنما تتكون في الغالب على تفاهم حول المصالح المشتركة وتتلاشي لحمتها كما يتلاشى عصبها حين تزول العلة التي أدت إلى تكوينها. .
إنها روح الجماعة وجلب المصالح (أمَقُونْ وَاللَكْ) التي تميزت بهما قبيلة الاقلال عبر العصور والتي أشار اليها الشاعر محمد ولد محمد خوي رحمه الله بقوله :
الاقْــلال مقدر مُــولْ الْـعَـــــــوْنْ عَـنْهَــمْ هَــوْنْ وْ هَــكْ أبْــلاَ دُونْ
الاقْلالْ الْـهَـــوْنْ أهْــلْ أمَـقُــــونْ والاقْــــــلاَلْ ألِ هَـــكْ أهــلْ اللَكْ
وَخْيَـرْتْ ابْالاقْـــلاَلْ ألِ هَـــــوْنْ وْوَخْـيَــرْتْ أبْالاقْـــلالْ ألِ هَــكْ
لقد استطاعت الجماعة بحكمتها المعهودة مذ توليها لوظيفة الإمامة بمدينة شنقيط التاريخية في ظروف لم يكشف حسب ما أرى حتى الآن بما فيه الكفاية عن ملابساتها الحقيقية أن تخلق مواطنة قبل مواطنة الدولة حين صارت "قبيلة موطن" لغير المنتسبين إليها بل إنها منحتهم كما يتجلى في علاقتها مع أسرتكم شهادة الأهلية من خلال عبارة "أهلنا" التي تنم عن فائق المودة والتكريم..
إن هذا الدمج "المواطني" الذي طال عائلات تنسب إلى سلاطين دولة أولاد أمبارك التي أفل نجمها وأخرى من شتات إمارة ادوعيش المرابطية التي استطاعت رغم تغلب عرب المعقل في البلاد أن تحافظ على شوكتها الحادة يشكل بحد ذاته موضوعا هاما بالنسبة لكل من يهتم بتفكيك لغز القبائل الموريتانية وأنسابها وأعتقد أنك قدمت من خلال سرد جذور أسرتك ورحلتها في سطور ملؤها التفاصيل التاريخية والجغرافية وغيرها مما يعين على فهم "امْرَادْ أهَلْ لَخْيَامْ" إحدى أهم المواد الأولية التي يحتاجها باحثو الأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم الاجتماعية.. .
وبالإضافة الى هذه المسألة الجديرة بالبحث وبالتدقيق لا خلاف بأن ذاكرة القبيلة التي تنتسب إليها أصلا أي قبيلة أولاد امبارك تعد من أهم مفاتيح تاريخ مجتمع البيظان بل تاريخ مجتمعات ’’لَكْوَرْ’’ المجاورة له في منطقة الساحل الإفريقي..
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في هذا الفضاء الذي عرف قدما بالتميز بين تراب البيظان وتراب السودان استطاع سلاطين أولاد امبارك الذين تميزوا عن غيرهم من أمراء ’’ترابنا’’ بلقب السلطان أن يبسطوا سلطتهم على شعب متعدد الأعراق وفقا لما أوردتم عند ذكركم لما قيل في أعل ول أعمر ول هنون ول بهدل ولد امحمد ازناكٌي الملقب ’’أعل العافية’’ بمعنى اعلي السلام ,,, يا سلام !) والمعروف أيضا ب ’’ اعل بو سروال: ’’:
أعْـــلِ مَــا امْــعَـــــــاهْ ألْــوَاصَ مَــعْـــطَ مُـــولاَنَ ذِي أطْــرِيكٌــــو
حَــاكْـــمْ إيـفَـــلاَنْ وَاهْـــل مَــاصَ وْحَـاكْـــمْ الْـبِــظَـانْ واهْــل سَــيْــكٌــو
ولهذا الغرض ولغيره من الأغراض التاريخية والأدبية جاءت شهادتك القيمة وما صاحبها من ملحقات ثمينة كالرسائل وكأمهات قصائد الشعر الشعبي "اطلع أتهيدين" تلبية لرغبات المهتمين بتراث يتعين تفكيكه بغية معرفة ما ينطوي عليه من معلومات دقيقة حول ماض المجتمع الأهلي أو مجتمع أهل لَخْيَامْ الذي يخيم شئنا أم أبينا على تاريخ الدولة الموريتانية..
لاشك أن سلطنة أولاد امبارك اندثرت وتلاشى عصبها في العديد من المجموعات الأهلية البيظانية والسودانية على حد سواء لكن آثارها في الموروث الثقافي...والثقافة كما يقال هي ما يبقى بعد النسيان... ما زالت تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.
ولعل أكبر هدية قدمتها للغويين ولغيرهم من المختصين في علم اللسانيات تتمثل في تدوينك لكم هائل من قطع الشعر الحساني (لَغْنَ) المتعلق بعهد سلاطين أولاد امبارك قد يساعد لا محالة في الاطلاع على خفايا اللهجة الحسانية (لغة الموطن) وعلى صلتها الوثيقة باللغة العربية (لغة الأصل) وبالجملة فإن حكاية "الجذور والرحلة في سطور" تتجاوز تاريخ أولاد امبارك المثير للانتباه إلى تاريخ مسار مجتمع البيظان المحكوم عليه بالاندماج في الدولة الوطنية..,
ومن هذا المنظور يعتبر سردك الشيق لرحلة أسرتك وكذلك لمسارك الشخصي الذي يتعين إكماله بمذكرات عن مسارك المهني في خدمة الدولة الموريتانية بمثابة لوحة بديعة من مسار المجتمع الأهلي الأصلي بمكوناته العشائرية وبشرائحه وبتناقضاته التي مازالت في حلها وترحالها تخيم بمجتمع المواطنة .
وأخيرا وليس آخرا أقول من باب الكشف عن المستور وبغض النظر عن ما قد ينسب لعيون الرضا بأن الجذور والرحلة في سطور تتمثل جملة وتفصيلا في حكاية جميلة لأمة قد خلت لها ما كسبت ولأجيال الحاضر والمستقبل ما كسبوا أو ما سيكسبون..
.....................
وكتبه عبيد ربه أسير كسبه عبد القادر بن محمد بن أحمد محمود بن عبد الله بن أحمدو بن محمد سالم المجلسي تيب على الجميع .. بتاريخ الأربعاء 28 جمادى الأولى 1439 هجرية، الموافق 14 شباط (فبراير) 2018 ميلادية..