من المعلوم أنّ عصرَنا هذا عصر سرعة وتطور، ولم يَعُدْ وارداً فيه للمعلم -الذي هو رمز التوجيه- أن يقف أمام طلابه آمِراً جازراً، بل صار يخاتِل بأسلوبٍ حميدٍ عبر أحدث طرق التوصيل التفاعلية، فما بالك بي وأنا أخاطب قارئاً واعياً، يستطلع بإدراك، ويتابع بحذر، ومن نافلة القول أنْ لَا يخفى عليه أن أكبر إشكالية تعيق التنمية في موريتانيا، تتعلق في الأساس بتكوين الكادر البشري المحلي، الذي يقع على عاتقه عبء النهوض بالوطن، ومواكبة العصر بروح الانفتاح المرتبط بالقيم.
انطلاقاً من هذا الاستهلال، سأحاول في نقاطٍ محددة أن أبسط على سبيل التدارس والتداعي الافتراضي، بعضَ التفاصيل في هذا الموضوع، الذي يهمني ويهمك -أخي القارئ- ويهم الوطن والمواطن.
من المتفق عليه أنّ تطور بلدنا -شئنا أم أبيْنا- مرتبطٌ حصراً بتطور الكادر البشري، والاستثمار في الكفاءات النزيهة، وإتاحة الموارد الضرورية، للقيام بعملية التنمية على أحسن وجه.
ويظُنّ البعض انعدام هذه الصفات اليوم، لكن الواقعَ غيرُ ذلك، فلدى البلد ثروةُ كفاءاتٍ مبدعةٍ ومنتجةٍ من الشباب الجادّ، سواء كان في الوطن، يقبضُ على جمر التجاهل، أو أجبَرْته الظروف على التشرد في الخارج، فهو -وإن كان عاملاً فاعلاً في مؤسسات دولية وبمحفزات مالية مريحة جدّاً- يبقى تغييبُه الضمنيّ عن الوطن، وبُعدُه عن المساهمة في نهضته؛ تشريداً وإقصاءً خطيرَيْن، من منطلق الإدراك العقليّ الطبيعي، والأفق الاستشرافيّ المعقلن!
وحتى لا نبقى نراوح حول الخلل دون أن نلمسه، سأتحدث بدوافع الغيرة الوطنية، عن الكادر البشري في موريتانيا؛ بلدي الأول والأخير؛ من منظور اختلالات بنيوية، تتعلق بالتوظيف والتعيين، ولن أقول إني حياديٌّ بالمفهوم السلبي، لكني سأحاول أن أكون موضوعيّاً في رأيي ما استطعت، وبأسلوب أكثر شيوعاً لدى الجميع: "لن أتكلم كلام المعارضة، ولكن في الوقت نفسه لن أنشد أناشيد الموالاة".
إن أكبر معضلة في موريتانيا تتعلق بالمواءمة بين التخصص والتعيين، والعلاقة بين الكفاءة والتوظيف، فقد كاد يختفي الانتباه إلى هذه الزاوية، وابتعلنا طعم التأقلم مع ذلك، وألبَسْنا الأمرَ لَبوس التعود، متخذين شعار القرابة والصلة دليلاً على الموافقة المطلقة، لاهِجِينَ باللازمةِ الجاهزةِ: "الرجل المناسب في المكان المناسب"، حتى وإن كان أحدُنا ينطقها دون وعيٍ، كدعاءٍ واجبٍ لقريبٍ أو صديقٍ، هو أول مَنْ يعلمُ عدم استحقاقه وضحالة تجربته!
إخوتي القراء الكرام؛ عندما يتم تعيين مهندسٍ تقنيّ في منصب أدبي، أو معلم لسانياتٍ متخصصٍ في منصبِ محاسبةٍ دقيقةٍ معقدةٍ، فذلك بالفعل تضييعٌ لجهود عديدة، وتجاوُزٌ لتباين العلوم والمجالات، وقتلٌ لمبادئ التخصص والكفاءة، بأكثر الطرق فتكاً، وتعبيرٌ قاطعٌ عن تضييع المستقبل، وتفريغٌ صادمٌ لرسائل المؤسسات من محتواها، الذي أُنشئت له.
إن معايير التوظيف عندنا في موريتانيا، ليست مضبوطة، ولا موجَّهة بعناية كافية، وذالك مايبرر اللغط المثار دائما حول الإكتتابات وعدم توفر المستفيدين منها على الشهادات المطلوبة أصلا للولوج إلى المناصب المعروضة.
المشكلة هنا ليست متعلقة بالدولة وحدها؛ بقدر ما تتعلق بكفاءة اللجان وتخصص المشرفين على الاكتتابات، دون الخوض في مبادئ الشفافية والاستقامة، التي هي أهم الشروط الضرورية، لتطور الكادر البشري الوطني.
الكارثة أن من يُقْدِمون على تصرفات تسمح لغير ذوي الاختصاص والكفاءة بالولوج إلى مناصبَ قياديةٍ هامةٍ، يدمرون مستقبلَ بلدٍ بأكمله، دون أن يرِفَّ لهم جَفنٌ.
ومن المؤسف أنه كل ما تحدث أحدٌ عن مشكلة الوساطة، أو شغْلِ مَن لا تتوفر فيه المؤهلات اللازمة منصباً حيويّاً حسّاساً، لا يستحقه، ولا يقدرُ على مسؤولياته؛ يكونُ كمنْ فتح على نفسه أبواباً مليئةً بالعداوة والتجريح، من الأقارب قبل الأباعد، ومن الأصدقاء قبل الأغراب، وذَا ما يؤكد جليّاً، أننا ما زلنا -وسنبقى إن لم نتداركْ نفوسنا- نرى الأمور من خلال المصالح الخاصة الضيقة -كي لا أقول الفردية- بدلاً من النظر من خلال المصلحة العامة المشتركة، والهمّ الوطنيّ الجامع.
إن أكبر جريمة يمكن أن يرتكبها شخصٌ تجاه وطنه، أن يعطيَ مسؤولية لمن ليس أهلاً لها، أو يساهم في إسنادِ دورٍ مفصليٍّ في الشأن العام، لشخصٍ لا تتوفر فيه معايير الكفاءة اللازمة، للقيام بتلك المسؤولية، أما أن يكون بعيداً كلَّ البعد عن الاختصاص الذي تتطلبه تلك المسؤولية -مع وجود مختصين كثُر في ذات المجال- فتلك أسوأ وأخطر من سابقتها.
إن تعيينَ مسؤولٍ لم يتلقَّ أدنى تكوينٍ في علوم التسيير، على إدارة مؤسسةٍ عامةٍ، ذاتِ ميزانيةٍ متشعبةٍ؛ يعتبر -في أبجديات دراسات التنمية- خطأً فادحاً، حتى وإن قلنا إن بعض الكفاءات من خارج تخصص التسيير، أبدعتْ خلال بعض توليها المسؤوليات، لكن يبقى ذلك خارجاً عن القاعدة العامة، وربما هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، دون أن يلغيها أو يحدّ من صحتها.
حين نصارحُ أنفسنا، سندرك أن الشفافية في موريتانيا عنوانٌ كبيرٌ ومثيرٌ جدّاً، لكنه غالباً ما يكون حبراً أنيقاً على ورقٍ صقيلٍ؛ لا غير.
وببساطة شديدة، لا يختلف اثنان حول المثال المحزن على انعدام الشفافية؛ وهو ما يحدث لميزانيات الدولة منذ عقود خلت، إذْ يتم نهبُها بطرق ممنهجة كثيرة، أقربُها وأكثرها شيوعاً، نفخ الفواتير. والقلة القليلة جدّاً، هي التي سلمت من المشاركة في ذلك النهب، ويعتبرها البعض محرومةً من خيرات البلد، لسذاجتها وبُعدها عن منافع المألوف من تعاطي هذا المال العام.
إن المسافر خارج موريتانيا في أي اتجاه، يمكنه ملاحظة دور البنى التحتية، والرؤى الواعية لأي بلد، في تطوره الاقتصادي، حتى في البلدان التي تماثلنا في صعوبة التأسيس وملامح النشأة، ونتفوق عليها في الثروات، ولكننا رغم خيراتنا الهائلة، نبقى في ذيل التصنيف في مجال البنى التحتية الضرورية.
إن الأموال التي رُصدت لمشاريع البنية التحتية طائلة جدّاً، وكان من الممكن تشييد مدنٍ بمعاييرَ دوليةٍ، لو أن هذه الموارد فعلاً أُنفقت فيما تمَّ إعداده في دفتر الالتزامات، لكن التحايل وعدم الكفاءة حالا دون ذلك، وهو ما يمكننا مشاهدته في مقاطع الطرق الحضرية المشيّدة، من قبل شركات موريتانية للأسف الشديد.
هكذا إذن ندرك دون شك، أن عدم الكفاءة والتخصص والشفافية؛ هي أسباب حقيقية ملموسة، لكلّ فشلٍ في مجال تطوير البنية التحتية الضرورية لأي تطور اقتصاديّ.
في مجال العمران مثلاً؛ عندما تدخل أيّ بناية عمومية، تم تشييدها مؤخراً، سترى بالعين المجردة -حتى لو لم تكن من أهل التخصص- أن العمل أُنجز بكفاءة رديئة، وليست هناك أية برامج للصيانة. وإذا قادتْك الأقدار بعد أشهر قليلة إلى المرور بالمكان نفسه؛ ستتألم فعلاً، لما حصل في فترة وجيزة، من تبذير جديدٍ للمال العام وخيانة الدولة، دون أن ينعكسَ ذلك بالإيجاب ولو قليلاً، على واقع البُنى التحتية المَرْئية.
كل هذا يحصل، لأن مَن تمّ توظيفهم لتقسيم الصفقات، تنعدم لديهم الكفاءة، أو الشفافية، أو الاثنتان معاً في غالب الأحيان.
وعطفاً على مبدأ التداعي الافتراضي، الذي انطلقت منهُ في بداية المقال، سأردّ مسبقاً على أهم التعليقات التي ستَرِدُ في بعض الأذهان بمجرد القراءة، حيث أؤكد أنني لا أستهدف شخصاً بعينه في هذه السطور، ولكن أجزم أن الوطن يحتاج إلى نهضة عامة في شتى المجالات، ولن يحصل ذلك إلا إذا كان هناك نقدٌ ذاتيٌّ صادق، مشفوع بإرادةٍ جادةٍ، من خلال تسيير الموارد البشرية، من ذوي الكفاءة والاختصاص، من أبناء هذا الوطن العزيز علينا جميعاً، والذي يستحق علينا التصالح دائماً مع قيمه/نا وشرفه/نا.
من المصطلحات المبدعة، التي لاقت قبولاً وذيوعاً في مجال السوسيولوجيا؛ مصطلح رأس المال الرمزي، الذي بلوره عالم الاجتماع الفرنسي البارز بيير بورديو، ويعني ما يتمثله الفرد في سلوكه من قيم الشرف والهيبة والسمعة الطيبة والسيرة الحسنة، وهي عواملُ مشجعةٌ ومحفِّزةٌ لسلوك الأفراد العاملين في مكان العمل، وفي مجالات الحياة كافة.
وجديرٌ بالذكر أنّا لا نقتبس منه مضمون الاستقامة والشرف، فهو في صلب ديننا وثقافتنا الاجتماعية؛ بقدر ما نتأمل دلالة المصطلح، ونجاح العالم من حولنا في استحضاره، وتوظيف المفاهيم المصاحبة له، سبيلاً إلى الشفافية والتطور.
والدول مثل الأفراد؛ عليها أن تحافظ على رأس مالها الرمزي، من خلال انتقاء واجهتها التسييرية، بتقديم الأكفأ والأمثل، فالفرد حين يتولى مسؤوليةً ما، يصبح سلوكُه تقمّصاً ضمنيّاً لكل أفراد المجتمع، ومثالاً معبِّراً عن الجميع، وهو ما يُحتّم الانتباه والتثبت لدى الاختيار، فالأمر مرتبطٌ بإرادةِ أمةٍ، وأمَلِ شعبٍ، مصيرِ أجيالٍ.