دقة - حياد - موضوعية

في ضيافة أحمد ولد ابا ولد امين..

2021-10-28 18:44:53

 

في أحد المساءات التي يجود بها الزمان نادرا، لقيت قبل سنوات في حاضرة التاكلالت المحروسة، نفرا من الرعيل الأول، من بناة الدولة الموريتانية الحديثة.

كأن حسن بن ثابت عناهم في لاميته المعروفة:

         لله در عصابة نادمتهم    يوما بجلق في الزمان الأول 

وجدتني دون مقدمات، في مجلس وزراء مصغر، انسل خلسة من سنوات الستينات والسبعينات، لينغرس برفق في فجر الألفية الجديدة.. الجالس عن يميني كانت في عهدته ذات يوم حقيبة المالية، وبجنبه حافظ الأختام لسنوات بأمانة وتفان، وقبالته "يتمرفق" لسان ذرب للحكومة، طالما طاف العالم حاملا ذكر الجمهورية الوليدة، منافحا عنها في كل المحافل.

كان في قلب هذا المجلس الوزاري المنعقد خارج الزمان والمكان المألوفين، ذلك المساء، رجل هادئ وقور، تنكب الحديث تقريبا طيلة اللقاء، وبصره موجه نحو الأرض، رغم أنه من أسن الحضور.

لم يكن ذلك الرجل سوى، الإداري القدير ورجل الدولة المعروف، المغفور له، أحمد ولد ابا ولد أمين، الذي تولى مناصب سامية في عدة مفاصل من دولة الاستقلال، وكان كذلك أديبا مفلقا، تناقل الناس باستحسان شعره المحمل بمضمون غير مألوف في دوائر "المخزن"!!

أذكر أنه تجنب بشكل لافت، وببراعة مهذبة و"إكيدية" كل محاولاتنا لجره نحو الحديث، عن فترته في الحياة العامة، والمراحل التي عايشها، والقرارات الهامة التي واكب طبخها، وتنفيذها في دواليب الإدارة العمومية، خلال عقدين مفصليين في تاريخ التأسيس.

ولا زلت أذكر أنه حسم الأمر بطرافته المعهودة، والثائرة قليلا على السائد هنا، بأن قال لنا دون مواربة، في محاولة لمشاكسة أحد رفاقه القدماء، إنه يفضل أن يترك لغيره حصته من أحاديث مرحلة "رترت" التي تندلق معها عادة الألسن وتفيض الذكريات، وتورق الأحاديث وتتشعب.

كان ذلك المساء، رحمه الله، كما لقيته أول مرة في مجلس عزاء، بحي سوكوجيم في نواكشوط، عله إثر وفاة الأديب الألمعي، المرحوم جمال ولد الحسن، كان وقورا هادئا، متواضعا حتى ليكاد يحسبه الناظر من عامة الناس، ممن ليس لهم ذكر، ولا قول ولا رأي!!

من النوادر التي تروى أن أحد الإداريين الشباب، حُول حاكما لمقاطعة المذرذرة، وكان من عادته، أن يقوم بين فترة وأخرى بـ "جولات تفقد واطلاع، في القرى التابعة للمقاطعة، يشرح لهم فيها طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون قائمة بين الدولة والمواطن..".

وكانت هذه الزيارات، لا تخلو من سلوك متكبر لدى الحاكم الشاب، يجسد شيئا من النظرة الفوقية الباقية في رؤوس بعض الإداريين، من رواسب العهد الاستعماري، "يحكٌها المزورون في جلودهم" غالبا، دون كثير من الضجيج، كما هي العادة هنا في هذه الربوع، التي تمتلك قدرة امتصاص عالية، تماما كرمالها الدهسة.

في أحد الأيام، حل الحاكم الشاب بقرية التاكلالت، وكانت في استقباله "الجماعة" بكل ترحيب ووقار وأدب، واستعداد للإصغاء، وتلقي التعليمات بتواضع.

جلس الحاكم يلقي أوامره وتعليماته، ورؤيته للدولة وتعامل المواطن معها، وهو يستعيد كل ما قرأه وما سمعه من أساليب الإداريين الاستعماريين، ويلتفت يمينا وشمالا يلقي الأوامر، ويتسابق أعضاء "مجلس الوزراء المصغر" لخدمته، هذا يناوله قدح "الزريق" وذاك يجلب على عجل ماء للوضوء، وآخر يحرص على وضع قطع اللحم المنتقاة في صحن الحاكم الزائر..

انتشى الحاكم و"ذاب في الدور" وطفق يوزع التوجيهات على "الجماعة"، هذا المجلس الذي كان فيه، دون شك، وزراء وسفراء وإداريون مرموقون!!

فجأة سأل أحد الحضور الحاكم الشاب عن شخصية من محيطه، سبق أن جمعهما العمل قبل عقود، فالتفت الشاب مستغربا، وهو يمعن النظر في الشخص الجالس أمامه، قبل أن يسأل بنبرة مباشرة، غريبة في هذه المنطقة:

- أين تعرف عمي؟!!!

فقد كان الحاكم، يستبعد تماما أن يكون أي واحد من الجالسين أمامه، قد خرج من التاكلالت يوما، أحرى أن يكون قد تولى مناصب سامية.

رد الشيخ الوقور بهدوء، وبلغة فرنسية لا شية فيها:

- لقد كان مديرا بديواني.. 

ثم رفع بصره يستعيد تاريخ الفترة التي جمعته بعم معالي الحاكم، قبل أن يضيف:

- ربما يكون ذلك عام 1964.

 امتص الإداري الشاب الصدمة، قبل أن يفاجئه أحد محدثيه بتقديم الحضور، وفق ترتيب بروتوكولي، يأخذ بعين الاعتبار وظائفهم ومناصبهم السابقة.

وهذا تقريبا ما حدث لمرافقي في تلك الأمسية في بلدة التاكلالت، فقد تفاجأ حين بدأنا الحديث مع الحاضرين، حول قضايا الماضي، والمراحل التي عايشوها.

وتشعب الحديث، وكل واحد من الحاضرين، يقلل من أهمية دوره في أي من القرارات، التي اتخذت في ظل تسييره لهذا المرفق أو ذاك، وكانوا تقريبا يتمسكون بأن الإدارة والتسيير شأن جماعي، يديره الفريق المشرف بتشاور وتنسيق، ولا يمكن لأي من أعضاء الفريق، ولو كان رئيسه، ادعاء شرف اتخاذ القرار!

كنا في تلك الليلة في ضيافة جيل آخر، ورؤية أخرى للمرفق العام، وللعمل العام بصورة شاملة.

ولما انصرفنا قال لي مرافقي:

من رأى هؤلاء الرجال بمظاهر الزهد المحيطة بهم، وحرصهم على الهروب من الأضواء، ونبرة أحاديثهم الموغلة في الحرص على التواضع، ربما لن يقبل بسهولة، أنهم كانوا يوما في مواقع القرار، ولا أنهم كانوا ملء السمع والبصر.

من هؤلاء، أحمد ولد ابا ولد أمين، رحمه الله، الذي كان من جيل التأسيس في مواقع متعددة، إداريا في عدة ولايات من البلاد، ومفتشا عاما للدولة في إحدى المراحل، ومديرا لمؤسسات كبيرة، ورئيسا للمحكمة العليا.

لكنه ذلك المساء، كان رجلا عاديا، يمشي في شوارع التاكلالت، و"يأكل" ما يأكله أهلها، دون أن يتحدثوا عن ذلك، تحلل من كل المناصب والعناوين، وتحدوه رزانة، تطعمها جرعة صراحة زائدة قليلا بمعايير "إكيدي"، موطن الرجل الذي عاد إليه، يوم نفض يده من الحياة العامة، وعاد سيرة الأوائل، لا تكاد تفرقه عن غيره من سكان البلدة الهادئة!

الاعلامي محمد ولد حمدو

تابعونا على الشبكات الاجتماعية