لا شك أن قادة دول الساحل الخمسة، صدموا لتصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي راح يملح خلال ندوة صحفية عقدها في العاصمة باريس ضمن رسائل مشفرة أنه سيبدأ في تقليص تعداد قوة "بارخان" مع نهاية الصيف القادم، وهم الذين كانوا يراهنون على جهد عسكري واقتصادي فرنسي اكبر للخروج من دوامة معضلة علاقة الإرهاب بالتنمية.
.وعندما طمأن الرئيس الفرنسي نظراءه في دول الساحل في ختام قمة دامت يومين انطلاقا من العاصمة التشادية بأنه لن يسحب قوات بلاده على الأقل في الظرف الراهن إلا انه ترك الباب على مصراعيه أمام تقليص مرحلي لقوة "بارخان" بذريعة انضمام حوالي الفي عسكري من عدة دول أوروبية إلى المنطقة تحت مظلة قوة "تاكوبا". وعندما المح مسؤولون عسكريون فرنسيون بداية العام الجاري بإمكانية مراجعة التواجد العسكري لبلادهم في منطقة الساحل فإنهم كانوا يراهنون على القوة الأوروبية إلا أن تأخر تشكيلها والصعوبات التي واجهتها في الحصول على الأموال الكافية لتسييرها وطبيعة القوات المرسلة، جعل باريس تراجع ورقتها العسكرية في المنطقة إلى حين.
ولكن الرئيس الفرنسي لم يخف بصريح العبارة أمس أن إرادة بلاده تبقى الانتهاء مع مقاربة العمليات العسكرية الخارجية والتركيز فقط على "محاربة الإرهاب" ضمن ما اعتبره متتبعون الاكتفاء بتنفيذ عمليات بقوات خاصة أو تنفيذ عمليات بالطائرات المسيرة ضمن رهان إن استطاع تحقيقه فانه سيجعل منه ورقة انتخابية رابحة في انتخابات ربيع العام القادم. وجاءت هذه التصريحات إلى نقيض رغبة قادة دول الساحل الخمسة الذين كانوا يأملون في جعل قمة نجامينا تكملة لنتائج قمة مدينة "بو" الفرنسية قبل عام على أمل تحقيق انطلاقة أقوى العام الجاري في مضاعفة فرنسا لجهدها في محاربة الإرهاب والمساعدة على إقامة مشاريع اقتصادية تغني شباب هذه الدول من الانسياق وراء إغراءات التنظيمات المسلحة.
والمؤكد أن قادة دول تشاد ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا وفرنسا القوة الاستعمارية السابقة، أعادوا طرح نفس الإشكاليات التي حالت دون تمكن قواتهم من استعادة الأمن المفقود، بل إنهم وقفوا على حقيقة لا تعارض فيها، بأن الوضع ازداد تدهورا مقارنة بالعام الماضي، إذ يكفي الوقوف على حجم العمليات المسلحة التي استهدفت قواتهم الوطنية والمشتركة وتلك التي طالت القوات الفرنسية ليتأكدوا أنه منذ قمة جنوب فرنسا لا شيئ تغير إن لم نقل ازداد ترديا. حقيقة تدفع إلى القول إن قادة الدول المشاركة، طرحوا سؤالا واحدا موضوعيا في ظاهره ومحيرا في باطنه: لماذا هذا التقهقر هل لأن قواتهم لم تبذل الجهد اللازم لتحييد عناصر التنظيمات المسلحة أم أن هذه الأخيرة استقوت أكثر وأكثر بما يستدعي جهدا عسكريا أكبر يتعدى إمكانياتهم الوطنية؟
وهو ما يجعل قمة اليومين الأخيرين، رغم الوضع الاستثنائي الذي عقدت فيه، على خلفية التطورات الحاصلة في هذه "المنطقة ـ المستنقع" عادية، إذا سلمنا أن قادة الدول سيعيدون طرح نفس الإشكاليات والمقاربات النظرية التي كثيرا ما اصطدمت بواقع صحراء شاسعة من أقصى شرق تشاد إلى أقصى غرب موريتانيا بل أن امتداداتها تصل إلى غاية دولة الصومال وعدو تحركاته "زئبقية" يظهر اليوم هنا ليختفي أياما ليظهر في منطقة أبعد. ولذلك فإن مسألة التمويل التي طرحت وستطرح مستقبلا، ستفرض نفسها من بين أهم إشكاليات العمل العسكري مادام المال عصب كل حرب وبدونه الفشل المحتوم سيكون في نهاية المطاف قاسيا. وعندما طرح الرئيس التشادي، إدريس ديبي في كلمته الافتتاحية هذه الإشكالية، فإنه عبر بطريقة ضمنية بأن فرنسا التي حاولت قيادة العمليات العسكرية ضد التنظيمات الإرهابية ، قناعة منها أن أمرها محسوم وأن القضاء على عناصرها سيكون هينا، اصطدمت بواقع مغاير وحقائق ميدان لا يعرفها إلا من عرف خباياها وتمرس على القتال في تضاريسها الصعبة.
فقد وجدت باريس نفسها أمام معضلة مزدوجة لم تتمكن الانسلال منها، فلا هي تمكنت من توفير أموال طائلة لتمويل عملياتها وحسم الموقف عسكريا في اقرب فرصة ولا هي تمكنت من ضمان حياة جنودها الذين أصبحوا هم كذلك أهدافا لعمليات مسلحة مباشرة ضمن معادلة جعلت الرئيس ماكرون يحتار في أمره يواصل المعركة التي ليس لها نهاية أو الانسحاب مع كل تبعات ذلك على صورة فرنسا أمام الرأي العام الدولي والساحلي وحتى الفرنسي كونها خرجت دون أن تحقق أهدافها من عملية كلفتها الملايير وحياة 50 عسكريا من عناصر وحدات نخبتها القتالية. وحتى عندما اكد الرئيس التشادي، على أهمية التنمية وإسهام المجموعة الدولية في إقامة مشاريع اقتصادية لمنع انضمام شباب دول الساحل إلى الجماعات المسلحة يصطدم بمعضلة دفع الفدية الذي ساهمت فيها دول أوروبية بما فيها فرنسا التي مكنت التنظيمات الإرهابية من ملايين الدولارات مقابل رهائن غامروا بأنفسهم في عرين جماعات همها البحث "غنائم بشرية" قبل تحويلهم إلى غنائم بملايين الأورو والدولار وتجاربها في ذلك كثيرة ومتعددة جعلتها تفرض منطقها على دول بحجم فرنسا.
مما يدفع إلى اعتبار تصريح الرئيس ماكرون أمس برغبته الملحة في قطع رؤوس تنظيمات إرهابية، مجرد تمنيات للاستهلاك الإعلامي لأن ما تقوم به أجهزة المخابرات الغربية وجواسيسها في المنطقة عادة ما سار إلى نقيض هذه التصريحات بعد أن جعلت من الفدية وسيلتها لتحرير رعايا بلدانها من قبضة الإرهابيين. وإقدام السلطات المالية على اطلاق سراح أكثر من 200 مسلح من تنظيمات إرهابية مقابل الرهينة الفرنسية، صوفي بترونين ورهينتين إيطاليتين الخريف الماضي وفدية بحوالي 30 مليون أورو، سوى غيث من سيل عمليات متعددة تمت في هذا الاتجاه وما خفي قد يكون أعظم.
م. مرشدي
المساء