صحيفة نواكشوط: ما الانطباع الذي خرجت به بعد الاستماع إلى مقابلة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز؟
محمد فال: رأيت خوفا من الإسلاميين، وتوريطا للكادحين، وتسترا علىأصول الثروة،ومرونة مع القضاء، ومحاولة لمهادنة الرئيس الحالي، لا أكثر، لا أكثر.
أما مَرَدُّ الخوف من الإسلاميين فلا تبحثوا عن معناه في قوتهم السياسية والجماهيرية، بل ابحثوا عنه في ماكنتهم الدعائية النشطة. إنه خوف من مواقعهم الإخبارية وكُتابهم ومدونيهم ومنابرهم الدينية، خاصة أن الرئيس السابق يعرف، تمام المعرفة، أن ثلث حربه الحالية تقع معاركه في ساحة الحملات والدعايات والإعلام. وأما مرد توريطه للكادحين ومهاجمتهم بلهجة حادة فابحثوا عنه في بيان إقالته من قبل الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله. فبيان ولد الشيخ عبد الله أقنعه به الكادحون، وصاغوه معه وَهْنًا من الليل، وهيأوا لبثه عبر أثير الإذاعة في الصباح الباكر. إذن لديه مع الكادحين حسابات قديمة.. وبالنسبة للتستر على أصول ثروته، ومرونته مع القضاء، ومهادنته للرئيس الحالي، فهي أمور جد منطقية تمليها حاجته الآنية ومصلحته الخاصة ونظرته لبراغماتية.
صحيفة نواكشوط: عموما، ما هي وجهة نظرك حول تقرير اللجنة البرلمانية واحتمال مقاضاة ولد عبد العزيز؟
محمد فال:بصرف النظر عن مدى إخلاص اللجنة البرلمانية، والبرلمان في غالبيته، لأنها، ولأنه جزء من العشرية الفاسدة، فإن ما يُستشف من إرادة رئيس الجمهورية، محمد ولد الشيخ الغزواني، في ترك المسار يأخذ طريقه القضائي الشفاف نحو إحقاق الحق، مُطَمْئِن للرأي العام الموريتاني. فلعنا، بهذا التفتيش وبهذه المحاكمات المنتظرة، ندشن منعرجا عظيما في الحكامة الرشيدة إذ نرى محاولة جادة لاسترجاع أموال الشعب خاصة منها ما يرمز لسيادة الدولة كالمدارس العتيقة وحَوْزات الشرطة وباحات الملاعب. لا أعتقد أن العمولات، وأرباح الصفقات المشبوهة، والمحاباة بميزانيات المشاريع ستعود إلى بيت مال الشعب، لكن ما لا يُدرَك كله لا يُترك جله. والحقيقة أن مجرد إذلال صعاليك المال العام، ومجرد تلويث سمعتهم، ومجرد استدعاء الشرطة لرئيس سابق، سيساعد في حسن التسيير مستقبلا، لأن أي مغتصب لثروة الشعب وأي متمالئ معه سيحسبان، مستقبلًا، ألف حساب قبل الإقدام على فعلتهما. إننا نشد على يد الرئيس غزواني، ونرجو أن يمضي قدما في سياسته الرامية إلى زرع ثقافة جديدة في مجال احترام المال العام.
صحيفة نواكشوط: يقال بأن كل الطيف السياسي المهم التفّ حول غزواني بحيث لم تعد هناك معارضة...
محمد فال:سمعت تهكم النائب الخليل ولد الطيب بخصوص تنازله، مازحًا، عن راية التملق لزعماء المعارضة. لا شك أنه يعني بذلك أن الفرق أصبح دقيقا وهزيلا بين الموالاة والمعارضة. وهو ما يعني، في محصلته، أن بعض رموز الأغلبية يسعون إلى إحداث الشرخ التقليدي والعودة إلى مربع العلاقة الأولى بين الأنظمة في موريتانيا ومعارضاتها. وهو أمر يمكن تفهّمه لأن كبار الموالين لا يمكن أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم إلا بالمشاركة يوميا في "حرب" سياسية طاحنة يكون دورهم فيها تأليب الشعب على المعارضة وإظهار الولاء والجدوائية للحاكم. لكن هؤلاء لم يفكروا، أو تحاشوا التفكير في واقعنا المعقد وفي التاريخ السياسي للأمم. فبالنسبة لواقعنا، ظلت العملية التنموية متعطلة لعقود وعقود بسبب الاحتقان والتطاحنات بين الأنظمة والمعارضات سواء السرية منها أو العلنية. كانت كل ميزانيات الدولة تذهب إما في التنصت على المعارضين وتتبع أخبارهم وعلاقاتهم وشيطنتهم وتشويه صورتهم، أو تذهب في الحملات، عبر الإعلام والأعيان وحتى الفقهاء، للنيل من المعارضة ومنع "تفشيها" في المجتمع، أو تذهب في شراء ذمم القبائل والجهات. وقد رُصد نصف أموال الدولة لهذه الأغراض والنصف الآخر التهمته زمر الفساد بنفس المبررات.
كما أن التطاحنات السياسية وجو الاحتقان الدائم، وما يخيم بسببه من تهديدات بالانقلابات أو التخوف من تأثير خطاب المعارضة في المؤسسة العسكرية، حال دون انشغال الأنظمة بحل المشاكل المعيقة لتقدم البلاد: كالرق، والتناقضات العرقية والفئوية الخطيرة، والبطالة، وسوء التسيير، والرشوة، والقبلية، والتخلف البنيوي. وبدلا من ذلك، غرقت الأنظمة حتى ودجيْها في ترتيب الملفات الأمنية والسياسية لتأمين استمراريتها، وهكذا ضاع أمل الرقي والنهوض.
أما بخصوص التاريخ السياسي للأمم التي وصلت طور النضج، فإن أنظمتها تعمد إلى ما يعرف بـ"التعايش" كلما كانت البلاد مهددة في وجودها أو سيادتها. هذا البعد لم "يهضمه" الموالون الذين يسعون إلى فرض "مسافة اجتماعية" شاسعة بين نظام الرئيس الجديد والمعارضة التقليدية. التعايش لا يعني دائما تعيين حكومة وحدة وطنية تجمع الموالاة والمعارضة أو الأغلبية والأقلية، لكنه قد يعني أيضا التزام الطرفين (النظام والمعارضة) ببعض الأساسيات والمشتركات للوقوف، مرحليا، في وجه الأزمات التي تهدد كيان الدولة واستقرارها وسيادتها، كأنْ يلتزم النظام بإشراك أطر المعارضة ذوي الكفاءات في اعتلاء المناصب المهمة، ويلتزم بوقف تهميش المعارضة والبدء في إشراكها في صياغة بعض السياسات والمشاريع الاقتصادية، وفرض حياد الإدارة تجاهها، واحترام زعاماتها، وإنصافها بأخذ نصيبها وشغل مساحتها في الإعلام الرسمي، وفتح المجال لتمويل أحزابها بشكل أكثر إنصافا. وتلتزم المعارضة، من جهتها، بوقف تهييج الشارع، ووقف تأزيم الوضع السياسي، والحد من المهرجانات الداعية إلى المواجهة، والكف عن تلويث سمعة الدولة في المنابر العالمية، والاكتفاء بلعب دور الرقيب والناقد والموجه الذي يوضح النواقص ويشير إلى الخلل وينتقد أداء الحكومة بكل موضوعية وهدوء. في مثل هذا الجو يمكن تشغيل ماكنة التنمية لأول مرة والانهماك في عملية البناء الشامل. قد يقول قائل بأن موريتانيا لا تعيش مثل هذه الأزمات التي تستدعي التعايش بين النظام والمعارضة. لكن الواقع الموبوء يقول عكس ذلك: فعلى الحدود الشمالية للبلاد توجد بؤرة توتر لا نعرف متى تنفجر، وفي الحدود الشرقية توجد سيبة دائمة وأفق حالك لا يمكن التنبؤ بما سيؤول إليه، وداخل البلاد توجد أعراق وألوان وفئات تخزّن -في وعيها وفي لا وعيها- كل أسباب الانفجار وتكاد تحرق الأرض بمن عليها فتُدخل البلاد في دوامة من عدم الاستقرار المهدد، في كل لحظة، بالحرب الأهلية، ينضاف إلى ذلك ما يتهدد السلم بفعل اكتشافات الغاز الذي كان وبالا على كل الدول غير المستعدة -من حيث الوعي- لاستغلاله... هذه العوامل لا يمكن النظر إليها إلا على أنها تهديد حقيقي لوجود البلاد ولسيادتها، وبالتالي فإن أي نظام عقلاني يريد لبلاده الخير، وأية معارضة عقلانية تريد لبلادها الخير، لابد أن يتعايشا، دون التخلي عن أساسيات دورهما، حتى نتجاوز أزمة الوجود وحتى تصل السفينة شاطئ الأمان، عندها يكون لكل مقام مقال.
صحيفة نواكشوط:يتحدث البعض عن مضي رفيقك بيرام الداه إلى أقصى حد في مقارعة النظام الحالي، لكن آخرين يرون أنه تارة يخفف حدة خطابه إلى حد الارتياح لسياسات النظام.. ماذا يعني ذلك؟..
محمد فال:رفيقي بيرام الداه اعبيد من أعرف الناس بما تعنيه، في السياسة، "شعرة معاوية" (ابن أبي سفيان) الذي كان يقول: "إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مَدُّوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها". أي أن بيرام يحدد بنفسه متى يتكلم، وطبيعة كلامه، ومستوى نبرته حسب معطيات هو أدرى بها بحكم تجربته وانطلاقا من موقعه في التجاذبات. لكن ما لا يقبل البعض فهمه هو أن بيرام الداه وجد لنفسه موطئ قدم في السياسة ولم يعد بالإمكان تجاهله، فشعبيته المتنامية في آدوابه والأرياف والقريات والمدن الكبيرة (مثل نواذيبو)، وقدرته الفائقة على المواجهة، وعبقريته في التشويش (إن ارتأى أن التشويش مجدٍ في مرحلة معينة) وفي التهدئة (إن ارتأى أن التهدئة مجدية في مرحلة معينة)، وقدرته الكبيرة على جذب قلوب المهمشين خاصة من العبيد السابقين (حتى في مجتمع الإخوة الزنوج كما تدل عليه إحصائيات الإقتراع الأخير)، وتوفيقه في إحداث المفاجآت الكبيرة كما رأينا في الانتخابات الرئاسية الماضية عندما احتل المرتبة الثانية رغم ما رُصد من إمكانات مادية ومعنوية هائلة لباقي المرشحين، تجعله، موضوعيا، أحد أهم المهيئين للعب دور أساسي في ما حدثتكم عنه سابقا من تعايش.
هذا التعايش، الذي يبرره الواقع بكل تحدياته المعقدة والخطيرة، سيكون السيد بيرام الداه أحد أهم ركائزه إن تمكن النظام من فهم المعادلة الجديدة المتمخضة عن الرئاسيات الفارطة، وفهم وتيرة الاحتقان الفئوي والحقوقي ومدى تأثيرها على الانسجام والاستقرار، وتمكن من تحاشي "نصائح" بعض من يعيشون على إرباك المشهد ولا يجدون أنفسهم إلا في وضعية يطبعها التوتر والمشاحنات والاعتقالات والمسيرات ومسيّلات الدم والدموع.. إنها غنيمتهم من السياسة ولا يمكنهم تفويت فرصتها، ولن يُفوّتوها أبدا إلا إذا قمع النظامُ غاياتهم ونواياهم لصالح بقاء موريتانيا ككيان موحد وتوجهها المطلق والحصري نحو البناء.
إذن، الأمر كله موقوف على مدى فهم النظام القائم لأهمية "التعايش" والدور الذي يمكن أن يلعبه السيد بيرام في هذا التعايش سواء على مستوى الجماهير الإيراوية، أو على مستوى نخب الحركات والتنظيمات والأحزاب ذات المطالب العرقية، أو على مستوى المنظومة الدولية.