تمر اليوم الذكرى الـثالثة عشرة لتنصيب الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في قصر المؤتمرات بالعاصمة نواكشوط في مثل هذا اليوم من عام 2007.
.
كان يوما مشهودا، استغرق الإعداد له على مستوى الرئاسة والتشريفات ووزارة الخارجية عدة أسابيع..
فمباشرة بعد إعلان فوز الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، الذي جرى في مارس 2007 متقدما بنحو نقطة ونصف على زميله في حكومات السبعينات، المعارض التاريخي الصلب، الرئيس أحمد ولد داده، بدأت التحضيرات.
كان الأمر جديدا بالمرة، فلم تعرف البلاد لحد تلك الساعة حدثا مشابها، فهي تتأهب لتنصيب أول رئيس مدني، يصل إلى الحكم من خارجه، بعد انتخابات تعددية استثنائية وفارقة في التاريخ السياسي الموريتاني الحديث، خلت ربما لأول مرة، باتفاق أغلب المتابعين، من التزوير التقليدي، وإن لم تغب عنها أساليب التأثير على الناخبين لصالح أحد المرشحين من قبل ساكن القصر الرمادي، حتى وهو يتأهب لحزم حقائبه ظاهريا!!
ولحد علمي، كان ذلك الحفل غير مسبوق في تاريخنا المعاصر، فالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع، الذي فاز في ثلاث انتخابات رئاسية متتالية منذ مطلع التسعينات، لم يسع مطلقا لتنظيم حفل لتنصيب نفسه، في أي من المرات التي تولى فيها دستوريا ولاية رئاسية جديدة.
وكانت بداية كل مأمورية، تتم وفق أبسط الترتيبات البروتوكولية وأسرعها.
ولا شك أن المناخ السياسي العام كان له حظ من تأثير في ذلك، ففي كل مرة يعاد فيها انتخاب الرئيس معاوية، كانت تهم التزوير تلاحق جهازه الانتخابي، ولم يخل المشهد من تشنج ومظاهر اعتراض سياسي، رافقتها مواجهات بين قوات الأمن ونشطاء المعارضة، في بعض المرات.
ولا أعتقد أن الرئيس المختار ولد داداه، رحمه الله، الذي تولى السلطة عبر سلسلة انتخابات رئاسية منذ مطلع الستينات، سعى هو الآخر، لإقامة مراسم احتفالية كبيرة، كما كان الأمر يجري الإعداد له شهر ابريل 2007 في نواكشوط.
وقد حاولنا في التلفزة الموريتانية وقتها، أن نحضر لهذا الحدث تحضيرا جيدا، يليق بالمناسبة، وتوزعنا منذ الساعات الأولى لذلك اليوم في مباني قصر المؤتمرات، حيث سيقام الحفل.
كنت ضمن كوكبة من الزملاء، يتقدمهم المرحوم حمو ولد أحمدو مامين، الطالب ولد سيدي أحمد، وزير الشباب والرياضة والتشغيل الحالي، وسيدي ولد الأمجاد، وجغانا عبد السلام والعميدة ركي سي.
كانت مهمتنا تتمثل في تأمين التغطية الكاملة لهذا الحدث غير المسبوق، ونقل وقائع الحفل،الذي أقيم بقصر المؤتمرات القديم بالعاصمة نواكشوط.
نصبنا معداتنا التقنية ونشرنا الطواقم، وبدأنا في الإعداد لأكبر تغطية تعرفها القناة، منذ نشأتها، ستتطلب منا تأمين نقل حي على الهواء لساعات متتالية.
كانت التحديات التقنية حاضرة وحقيقية، فنحن لا نملك وسائل متطورة وخفيفة ومرنة للنقل والبث، كما هو الحال الآن على ما أعتقد في التلفزة الموريتانية، على غرار ما هو موجود لدى وسائل الإعلام العالمية.
وأقمنا يوما قبل الحفل خلية فنية متكاملة في الباحة الخلفية للقصر، ومنها أدار الفنيون العملية، يوم الحفل تحت إشراف المدير الفني للتلفزة وقتها المهندس محمد عبد الله كان.
كانت المرة الأولى بالفعل التي تقوم فيها التلفزة الموريتانية بتجربة من هذا القبيل، لها تحدياتها التقنية غير اليسيرة، ولعلها المرة الوحيدة حتى ذلك التاريخ التي نتنقل فيها بطواقم كبيرة لتغطية حدث كبير.
وقد كانت التلفزة في السابق قد اعتادت التعامل مع أحداث تتكرر دائما، ولا تتطلب جهدا تقنيا استثنائيا، فكانت كل عام، تنقل حفل رفع العلم من القصر الرئاسي، صبيحة ذكرى الاستقلال، ووقائع صلاة العيد من جامع بن عباس مرتين في السنة، وكذا نهائي كأس رئيس الجمهورية التي تقام عادة بالملعب الأولمبي المجاور لمبنى التلفزيون.
وقبل أشهر فقط من ذلك، استطعنا بصعوبات كبيرة، نقل المهرجان الختامي لحملة شرح التعديلات الدستورية، التي طرحت خلال استفتاء 25 يونيو 2006، والذي أقيم بالملعب الأولمبي على مرمى حجر من مبنى التلفزة.
كما قمنا قبل ذلك بأشهر، بتغطية "شبه مباشرة"، لما عرف حينها بالأيام الوطنية التشاورية.. وكانت في الواقع الإطار الذي مرر من خلاله المجلس العسكري حينها، رؤيته ببراعة لا تخلو من إجماع - ولو ظاهري على الأقل- للمرحلة الانتقالية التي تعهد بتنظيمها، بعد إطاحته بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع في أغسطس 2005.
ولكن تغطينا تلك رغم أنها كانت ثورية بمعايير تلك الأيام، وظروف المؤسسة حينها، إلا أنها لم تكن مباشرة تماما، وإنما كانت بثا سريعا من موقع الحدث لمجرياته بفارق دقائق، ومع لمسات مونتاج وتشذيب خفيفة..
ولذلك وصفتها، آنفا، بأنها نصف مباشرة.
لكن تجربتنا الجديدة هذه، كانت مختلفة بالكامل، وسندرك ذلك سريعا في ذلك الصباح الاستثنائي في تاريخ البلاد، والاستثنائي كذلك في تاريخ التلفزيون في موريتانيا.
فرغم كل ما حاولنا توقعه، أدركنا ونحن على الطبيعة، كما يقال، أننا كنا محدودي الوسائل وضعيفي التجربة في مواجهة المباشر، فما إن حان موعد الربط بالأستوديو المركزي بمباني التلفزة، حتى فقدنا نحن الموجودين بباحة قصر المؤتمرات، الاتصال بالأستوديو، على بعد عشرات الأمتار فقط!
كنا ما زلنا في الدقائق الأولى من بث حي ومباشر كنا نريده مواكبا لذلك اليوم الكبير.
وبعد جهد جهيد، استطاع الفنيون ربط ما انفك، ولكن واجهتنا مشكلة أخرى، فقد كانت إشارة البث القادمة من الأستوديو ضعيفة، ولا تكاد تشعرنا بأننا أصبحنا على الهواء، وتطلب الأمر الاستعانة بفني يتولى إبلاغنا، ويا للمفارقة، بالتلويح باليد من بعيد من الموقع الذي يرابط فيه الفنيون، بعد كل مرة ينقطع فيها البث أو نفقد فيها الإشارة.
ولن أنسى المدير العام المساعد للتلفزة وقتها، الأستاذ محمدو سالم ولد بوكه، رئيس اتحاد الإذاعات الإسلامية فيما بعد، في إحدى المرات، وهو يركض من جهة الخلية الفنية، خلف قصر المؤتمرات، لينبهنا بأننا أصبحنا على الهواء!!
كان أول ضيف قدمناه للمشاهد، على ما أذكر في ذلك الصباح الخاص، هو الخبير في القانون الدستوري، الدكتور إدريس ولد حرمة، المستشار بعد ذلك على ما اعتقد، في ديوان الوزير الأول، وتناول حديثنا معه الإطار الإجرائي الناظم لأداء رئيس الجمهورية للقسم، وغير ذلك من الترتيبات الدستورية والقانونية المرتبطة بالعملية.
وقد استطعنا محاورة الدكتور إدريس ولد حرمه دون وقوع انقطاعات في البث، وانفتحت شهية الزملاء، ورحنا نجوب باحات قصر المؤتمرات، بحثا عن ضيوف متميزين موريتانيين وأجانب، "نؤثث" بهم الساعات التي تسبق الحفل، المقرر نظريا الساعة الحادية عشرة.
قدمنا في ذلك اليوم عشرات الضيوف، من داخل البلاد وخارجها، إذ كانت هناك إلى جانب الشخصيات والفعاليات السياسية والاجتماعية الوطنية، وفود أجنبية من مختلف قارات العالم، عكس حضورها تقدير العالم في ذلك الحين لما سمي حينها التجربة الموريتانية، التي عاش بفضلها البلد، ربيع آمال مجنحة ومتوثبة، لن يلبث أن ينقشع سريعا، ويسلمنا للأسف لمشهد ربما كان أكثر سوء، مما كان عليه الحال، خلال عهود الاستثنائية السابقة!
وما زالت معي في الذاكرة من ذلك اليوم مواقف محرجة وأخرى طريفة، كان أولها مع وزيرة الدفاع الفرنسي ميشيل آليو ماري التي ستتولى بعد ذلك بسنوات حقيبة الخارجية في حكومة الرئيس ساركوزي، فقد كنا على الهواء وكانت الوزيرة الفرنسية تتجه نحو البوابة الكبرى لقصر المؤتمرات، فاستوقفتها وبدأت معها حوارا على الهواء، وأثناء تقديمها التبس علي جزء من اسمها، فنطقت بدل ميشيل اسما آخر، ولم تعر الوزيرة، على ما يبدو أهمية لهذا الالتباس، ودخلت معي في الحوار، لكن السفير باتريك نيكولوزو الذي كان إلى جانبها، خطا نحوي خطوتين، ونطق الاسم صحيحا وكاملا، على مسمعي مرتين، قبل أن يعود أدراجه إلى جانب الوزيرة، ففهمت حينها أني نطقت اسمها بشكل غير دقيق، فأسرعت بطرح سؤال جديد مشفوع باسمها مصححا، فأومأ لي السفير مرتاحا للتصرف.
من المواقف المحرجة كذلك في ذلك اليوم، أني بعد ما نجحت أنا والزميلة ركي سي في "اصطياد" الدبلوماسي الجزائري الكبير سعيد جنيت، وأقنعناه بحديث على الهواء، وكان حينها مفوض السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي، وسيلتحق فيما بعد بالأمم المتحدة ممثلا لأمينها العام السابق بان كي مون لسنوات في غرب إفريقيا، وفي الوقت الذي وصلنا به إلى الموقع، الذي نصبنا فيه تجهيزات البث عند المدخل، لاحظنا أن البث قد انقطع، فحاولنا استبقاءه لبعض الوقت، بأحاديث جانبية، ريثما يتغلب الفنيون على المشكل.
وكنت أتظاهر بأني أتابع حديث محاوري، وأفتعل الاهتمام، وأطلب كسبا للوقت، المزيد من الإيضاحات حول نقاط معينة.
في هذه الأثناء كانت عيني في الواقع على الحركة الدائبة للزملاء الفنيين، وهم يسعون جاهدين لربط الاتصال مجددا مع الأستوديو المركزي.
ويبدو أن السيد جنيت سئم الانتظار، فما كان منه إلا أن يسألنا متى سنبدأ الحوار على الهواء، فتحججت ببعض المشاكل الصغيرة التي سنتغلب عليها بسرعة لنبدأ المقابلة.
ولكن الدقائق مرت سريعة، والارتباك ما زال سيد الموقف لدى الفنيين، فما كان منه إلا المغادرة غاضبا، ولم تنجح محاولاتنا إفهامه حقيقة ما جرى، في تبديد شعوره بالإهانة، بعد أن أبقينا دبلوماسيا مرموقا من مستواه لبعض الوقت ينتظر "الهواء"..
بعد ذلك بدقائق استعدنا التواصل مع الأستوديو، واستأنفنا مقابلاتنا مع ضيوف الحدث، واعترضنا عند مدخل قصر المؤتمرات، السيد أحمدو ولد عبد الله، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في غرب إفريقيا حينها، والذي جاء ممثلا للمنظمة الدولية في الحفل، وما إن بدأنا الحديث على الهواء، حتى زارنا مجددا طيف الخلل الفني وانقطع البث.
في هذه المرة، لم يكن لنا أن نشعر بإحراج من أي نوع، فنحن أمام موريتاني، يعرف حدود وإمكانات بلده، ويدرك لا محالة، مستوى التحكم في التكنولوجيا لدينا.
وبالفعل فقد تعامل مع الموقف بروح رياضية، وبقي معنا بتواضع جم، نتجاذب أطراف الحديث، وكأن الأمر أكثر من عادي بالنسبة له، حتى تغلبنا على المشكل الألف، ربما الذي واجهناه ذلك اليوم الخاص والتاريخي.
وأذكر أن الدبلوماسي الدولي الكبير، حين بدأت معه التحضير للقاء، حرص على تنبيهي بأدب، إلى أنه لن يقول إلا ما يخدم موريتانيا، بعيدا عن الشخصنة أو الحديث المنحاز لأي جهة أيا كانت.
وكأن السنوات الطويلة في نيويورك، ومعها المهام الدولية المتعددة، في أكثر من منطقة عبر العالم، والمؤتمرات والمحافل الدولية الباذخة، على مدى عقود، لم تنسه ما كان سائدا في بلده، من أساليب ديماغوجية في الإعلام والدعاية، حين كان سفيرا ووزيرا في السبعينات والثمانينات..!
ومن المواقف التي لا أنساها كذلك، أنني والزميل الطالب ولد سيد أحمد، حين رأينا مساعد وزير الخارجية الأمريكي، وليام نيغروبونتي يتقدم نحو البوابة، قررنا أن نتسلح بكثير من الجسارة، ونضيفه لرصيدنا الضعيف حينها من اللغة الإنكليزية، ونبادر نيغروبونتي الذي كان يقود وفد بلاده في الحفل بسؤال، لكن المحاولة لن تذهب بعيدا، فالأذرع المفتولة لطاقم الرجل الأمني، كفتنا مؤونة السؤال، وردتنا ردا غير جميل، ورضينا من الغنيمة، بإيماءة بالرأس من الدبلوماسي الأمريكي الكبير، من خلف جدار أمني عازل..
وكفى الله لغة شكسبير، ما كانت ستتعرض له على يدي أنا خاصة، وربما بنسبة أقل من قبل الزميل الطالب، وأمام شهود كبار من الدبلوماسيين العالميين الحاضرين.
وبعد صراع طويل مع المشاكل الفنية، والصور والمشاهد المتراقصة على الشاشة، الصوت الذي يخاصمنا تارة ويعود أخرى، حانت اللحظة الفارقة والحاسمة التي انتظرها الموريتانيون، أعني الحفل، الذي أقيم في القاعة الكبرى بالقصر، والتي صممت في الأصل لنحو ألفي شخص.
وذلك اليوم أعيد تركيب مقاعدها بحيث تستقبل أكثر من ذلك من المدعوين، ولم ينفع كل ذلك، فقد بقي عدد من الرسميين، خاصة الأجانب من الصف الثالث، واقفين في القاعة بعد ما احتل آخرون، مواقعهم..
ساد لبعض الوقت هرج ومرج، لم يقطعه سوى بدء فعاليات الحفل، غير المسبوق في تاريخ البلاد، حضورا وتنظيما وتهيئة.
كان الحضور الإفريقي الرسمي كبيرا ووازنا في هذا الحفل، مقابل حضور عربي خجول، ففيما حضر عدد من رؤساء دول القارة، غاب أي رئيس عربي، وكان تمثيل الدول العربية بمسؤولين من الصف الثالث والرابع.
فقد كانت نواكشوط ذلك اليوم، وهي تشهد انتقالا سلميا جدا للسلطة، تقدم نموذجا مزعجا في عين قادة أنظمة عربية جمهورية، شغلهم الأول البقاء في الكرسي.
لم يكن من السهل "هضم"هذا المشهد، من بلد طرفي وفق نظرة المركز العزيزة على الأشقاء العرب.
لذا كانت المقاطعة العربية واضحة، ذلك اليوم في نواكشوط.
وكان واضحا الحضور العربي "المجهري" فيما تتراءى لك في المشهد، وجوه وقسمات من مختلف أنحاء العالم، حتى من دول قليلة الاهتمام عادة، بما لا يصله مجالها البصري المباشر، كإندونيسيا وماليزيا مثلا، أو حتى إيران التي كانت علاقاتها بموريتانيا تتميز بالبرود على مدى عقود، كانت ممثلة في الحفل.
لم يكن ذلك غريبا في الواقع، فالتضامن بين أعضاء نادي الرؤساء العرب، خاصة في هذا الجانب مسألة وجودية تلقائية ولاشعورية، وعلي سبيل المثال، استقبل القادة العرب ببرود شديد وواضح، العقيد اعلي ولد محمد فال في قمة الخرطوم قبل نحو عام، في أول لقاء لهم به، بعد إطاحته بــ"زميلهم" السابق الرئيس معاوية ولد الطائع.
كانت هناك مشاعر القلق والخوف والتحفظ غير الخافية ين الرؤساء العرب، اتجاه "آكل" أخيهم، تماما كما كان وداعهم له، وهو يحضر معهم، آخر قمة له، عقدت بالرياض الأيام الأخيرة من شهر مارس 2oo7، بعد ما بات تقريبا رئيسا سابقا، فهو وفي سابقة نادرة ربما لم يعرفها العالم العربي، مكلف من قبل من سيخلفه، وهو الرئيس المنتخب قبل أيام، الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، بتمثيل البلد!
ولكم أن تقيموا وزن رجل يستعد لتسليم السلطة طواعية، لخلفه المنتخب، بين قادة يتشبثون بقاعدة من القصر إلى القبر!
لقد تحاشوه ما استطاعوا، في ردهات مركز الملك عبد العزيز الدولي للمؤتمرات بالرياض، حيث عقدت القمة العربية الأخيرة، وسعوا لتجنب الترويج لـ"كبيرة" تسليم السلطة، والعودة إلى صفوف الشعب، كما كان يستعد لذلك المرحوم اعلي ولد محمد فال.
كان صدى كل تلك المشاعر، يتردد في قصر المؤتمرات بنواكشوط، خلال حفل تسليم السلطة، لتعكس حضورا عربيا ضعيفا، وحرصا على "تقزيم" التجربة، وعدم الاحتفاء بها.
دار الحفل كما خطط له، وسلم العقيد اعلي ولد محمد فال الأمانة للرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، الذي بات بموجب الدستور والواقع، الرئيس السابع لموريتانيا المستقلة.
وبعد كل هذه السنوات، ما زال من ذلك اليوم تفصيل صغير عالق بذاكرتي، يأبى النسيان!
فعندما كنت منكبا على إعادة تركيب مشهد هذا اليوم في تقرير للنشرة الرئيسية المسائية، جاءني "من" يطلب مني أن أتجنب في التقرير، أي ذكر للمجلس العسكري للعدالة والديمقراطية، الذي كان ملـء الأسماع والأبصار قبل ساعات، بوصفه من قاد البلاد في تلك التجربة الفريدة، رغم كل ما شابها وما قد يقال عنها من مآخذ!!
وما لفت انتباهي أكثر، هو أنه طلب مني، أن أبرز في المقاطع المصورة المعدة للبث مع التعليق، عددا من أصحاب الرتب والنياشين، من بينهم طبعا أهم أوجه المجلس الذي أمرت بتجنبه.
هل في الأمر تناقض أو عدم وضوح رؤية، أم هو أمر مقصود هكذا؟!
هل "من" طلب مني ذلك، كان يتصرف من تلقاء نفسه، أم بناء على تعليمات وتوجيهات من جهة ما؟ ومن هي تلك الجهة؟
لست أدري..
كلما أعرفه أن الأمر حصل هكذا..
من جهة يبعدون المجلس من الصورة، ومن جهة أخرى يحرصون على إبراز أعضائه أو بعضهم، أفرادا دون ذكر المجلس!!
قد يكون من المناسب فعلا أن يتصدر المشهد، وقد انتهى الحفل، الرئيس الجديد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، حتى وهو لم يدخل بعد مكتبه الرئاسي..
ولكن ليس من اللباقة، ولا من التصرف السليم، في رأيي المتواضع، إبعاد كل من ساهم في ميلاد هذه اللحظة، في لمح البصر، من قوي حية وهيئات، وفي طليعتها المجلس العسكري وحكومته التي أدارت المرحلة الانتقالية بقدر غير يسير من البراعة، رغم كلما يقال الآن من مآخذ عنها، وبعضه صحيح بلا شك!
ثم ما خلفيات السعي لإبراز أفراد من هذا المجلس دون آخرين؟!
أليس الأمر مثيرا للشك والريبة؟
مما يكن الأمر، فقد أدركت يومها، كم هو صعب على موريتانيا أن تتغير!!
وأسفت لذلك، ولسذاجتي وحسن نيتي، وحسن نيات موريتانيين آخرين مثلي، كانوا يتوقعون قطيعة مع الماضي بكل بساطة، وطي الصفحة دون كبير عناء.
وشعرت للأمانة بإحباط حقيقي، ونحن نودع بمثل تلك الممارسات، ذلك اليوم المفعم بالأمل بموريتانيا جديدة، تطلع كثيرون لأن تولد من رحم المراحل السابقة الصعبة، مستفيدة من الرصيد الذي راكمته على مدى عقود، وخاصة تجربتها الأخيرة في التفاعل والحوار، الذي طبع المرحلة الانتقالية المنصرمة.
كم هو فعلا صعب على موريتانيا للأسف.. أن تتغير!!
كانت أياما..
الصفحات 61 - 62 – 63