فكرت في شيء أكتبه عن هذه الأزمة الصحية العالمية المسماة بأزمة "فيروس كورونا" والتي أدخلت الناس في دوامة من الخوف والهلع وكان لها تأثير على عامة أصعدة الحياة الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية وكادت تقضي على المسلمات والثوابت التي كان يقوم عليها توازن المجتمع.
.
فكرت فيما أكتب. هل أكتب مقالا أذكر الناس فيه بأن الله هو ربهم وأنه ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ومن بين هذه الدواب فيروس كورونا. أم أكتب لهم لأذكرهم بأنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، أم أكتب لهم شيئا أقوي به قلوبهم وأخفف عليهم من عناء الوساوس والهموم التي تقض مضاجعهم.
فكرت في كل ذلك، ثم جاءتني الفكرة أن أتحدث على ثلاثة محاور بصفة مقتضبة.
المحور الأول: ما يجب على المواطن عمله، والمحور الثاني: ما يجب على الدولة أن تفعله، والمحور الثالث: ما يجب على المجتمع أن يصنعه.
أما ما يجب على المواطن أن يعمله فهو تعاطي الأسباب الشرعية التي أناط الله بها نواميس هذا الكون وتجِد تأسيسها في الهدي النبوي وسلوك العلماء الربانيين، وقد عبر عنها ابن القيم رحمه الله أحسن تعبير إذ قال: "لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضية لمسبباتها قدرا وشرعا فإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا".
وهذا يقتضي في الوقت الراهن الانصياع إلى كل ما تأمر به السلطات الصحية فهي مؤتمنة عليه وأدرى به ومسؤولة عنه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بالتداوي ويحيل في ذلك إلى رأي الأطباء، فقد روى البخاري في الصحيح عن أبي هريرة يرفعه: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء" وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن مسعود يرفعه: "إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله"، وفيه أيضا عن أسامة بن شريك قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: نعم، تداووا يا عباد الله..." إلى آخر الحديث. وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص أن يذهب إلى طبيب العرب الحارث بن كلدة الثقفي ليداويه من مرض ألمَّ به.
أما ما يجب على الدولة فهو يتجلى في عدة أمور منها:
توفير الأدوية بالقدر الكافي وبالأسعار المواتية،
تعبئة الطواقم الطبية بالقدر الكافي وبالكفاية الكافية،
تأمين الحجر (أو الحجز) الصحي تلافيا للعدوى وهو مبدأ مؤسس في الحديث الشريف الذي رواه عبد الرحمن بن عوف وأخرجه مالك في موطئه عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة ابن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع في أرض الشام فقال عمر بن الخطاب: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا، قال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال عمر: ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوهم فلم يختلف عليه منهم رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس فلا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مُصَبِّح على ظهر فأصبِحوا عليه، فقال أبو عبيدة: أفِرارا من قدَر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت المخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجاته فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه. فحمد الله عمر ثم انصرف". ففي هذا الحديث ما يفيد أن من واجب الدولة وهي المسؤولة عن مصالح الشعب أن تفرض عليه القيودَ التي تقتضيها مصلحته لا إشكال في ذلك.
وأما ما يجب على المجتمع فنرى أنه يتمثل قبل كل شيء في التعاون مع السلطات العمومية والتجاوب معها والانصياع لما تأمر به في نطاق مجابهة هذه الأزمة بدون تساهل.
كما يجب على المجتمع كذلك التحلي بالانضباط والعزوف عن الأراجيف والإشاعات الكاذبة فإن ضررها على المجتمع أكثر من نفعها بل لا نفع لها إطلاقا. ويجب على المجتمع أيضا تعاطي الأمور والأسباب التي ورد في الشرع أنها تنفع في مثل هذه الوضعيات من ذلك: الدعاء ومن أصح ما ورد فيه ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس أنه صلى الله عيه وسلم كان يدعو في الكرب بالدعاء: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم"، ومنها الصدقة وتلاوة القرآن الكريم، وقد أدركنا عند سلفنا الصالح أنهم كانوا بالإضافة إلى هذه الأشياء يكثرون من قراءة أمداحه صلى الله عليه وسلم وشمائله عليه الصلاة والسلام.
هذه خواطر جاءتني غير منظمة فحاولت تنظيمها مساهمة مني ومواساة لإخواني في هذه الشدة التي نرجو من الله تفريجها على نحو ما عودنا سبحانه من كشف الكروب وستر العيوب وغفران الذنوب سبحانه وتعالى.