حدثني الفنان الظريف الثقة الصدوق المرحوم ابَّاه بن انكذيْ روايةً عن ابيه محمد فال قال: " جئت إلى بوتلميت صحبة فنانيْن آخريْن لعلّهما من لبراكنه أحدُهما ابنُ اكليْب فعلِمْنا بوجود الأمير المجاهد أحمد بن الدَّيْد في ضواحي القرية فعقدنا العزم على زيارته بصورة سرية.
.
اتخذنا من الإحتياطات ما بلَّغنا خيمة الأمير في طيِّ الكتمان في منطقة من آوكار .استقبلنا مضيفنا بما هو أهل له من حفاوة و إكرام. و بعد أن مضى من الليل جزء يسير ،و بعد أن أصبنا من المأكل أطيبه و تجاذبنا من الحديث أعذبه، ركَّبنا آلاتنا الموسيقية و انطلق " الهولُ " من مبتدئه في " الجانبَ الكحلَ". و تدرّجنا فيه بصورة منسابة نتتبَّع حلقاته بانتظام.
اتَّخذ الأمير لنفسه مكانا منفردا في الجزء الشرقي من الخيمة ، بينما رتَّبنا نحن مجلسنا الفنيَّ في الجانب الغربيِّ بإزاء مرافق الأمير و صديقه الوفيِّ المتربّع لصناعة الشاي أعمر بن ميلود.
أمر الأمير بأن يوضع بينه و بين ضوء "الشمعة" المضيء بصورة خافتة في المبنى حاجز بدعوى حساسية مفرطة من أشعته .نُصب الحاجز في مكان مناسب بين " الركايز" بحيث يقيه أشعة الضوء و يحجب الرؤية من طرف غير أفراد مجلسه المحدود.
كانت نشوة الطرب بادية على الأمير نقرؤها جلية في قسمات وجهه و من خلال تعليقاته على بعض المقاطع .و بقدرما طرب الأمير بقدر ما اجتهدنا في الأداء بالجهد الذي تخولنا إياه بحَّة جماعية محرجة أصابتنا من قبل إثر نزلة برد عابرة. . و لمَّا وصلنا إلى مقام معيَّن و أفضى بنا فيه الإنشاد إلى ترديد "شور" معروف و مألوف آنذاك تحت عنوان " طيْرش مَرْ" داهمنا الأمير من حيث لم نكن نتوقع فداعبنا بكافٍ طريف قال فيه::
فالبحَ هاذِ مُصحَّ == فينَ هون أثلاثَ ياعمرْ
أُ كافينَ ذاكْ ٱمن البحَّ == ولَّ ذَ منهَ كاع أكثرْ!
قال الراوي: ضحكنا من دعابة الأمير و همَّ كل منا أن يظفر بشرف الجواب و بعد أخذ و ردٍّ استأثرتُ بذلك الإمتياز فأردفتُ قائلا:
أحمد يبغيه ألِّ شافُ == و الّ ما شافُ لُ نِذكرْ
غير ٱغدرنَ ظرك ٱبكافُ == كافُ بيه ٱنَّ ظرك ٱغدر!
ردَّدنا كافَ الشور و اجتهدنا في ترجيعه على رغم البحَّة و ضحك منه الأمير و علق عليه بطرافة توحي باستيعاب مضمونه و واصلنا الغناء مسترسلين حتَّى إذا وصلنا منه مقاما آخر أشار إلينا بأن ننتهي عند ذلك الحد فامتثلنا أمره طائعين.
قضى الضيوف بقية ليلتهم و غادروا مبكِّرين و لا أخالهم إلاَّ وقد أدركوا أن سبب احتماء الأمير من أشعة الضوء هو ذاته السبب في قصور الهول عن حدِّه المعلوم واقتصاره على الحدِّ الذي يحصل به إكرام القوم! فهو دليل قوي على شهامة الرجل و كرمه ذلك أن طبيعة علاقاته المتوترة مع المستعمر بسبب جهاده المستمر ما كان لها أن تتيح له من هدأة البال ما يسمح له بالإستماع للإنشاد ناهيك عن الإنشاء!
و بالمناسبة ذكرني موضوع البحة الواقعة قصة البحة المفتعلة لدى الفنانين. التأم ليلة جمع من" الوكَّافين " في الحوانيت في مدينة " اندر" يطلبون الترويح عن نفوسهم بعد عناء يوم كامل من المداومة لا تنتهي عادة إلاَّ عند منتصف الليل.طرقوا باب منزل هناك معهود حيث يقيم " امحمد ولد انكذي" لعور علَما فاعتذر لهم بحجة بحّة أربكت برنامجه.غادروا المكان مقتنعين و لكنهم فوجئوا بعد حين بصوت الفنَّان القدير مجلجلا يصلهم من بعيد كأصفى و أحسن ما يكون. أسرعوا عائدين إلى المكان و في نفوسهم شيء من إيثار الفنان غيرهم من الرواد.و لكنهم سرعان ما تفهموا الأمر إذ تبيَّنوا أنَّ اؤلئك المحظوظين هم نفر ممن هم أكثر منهم بسطة في الجاه و المال و ربما في البركة كذلك!
عندئد أذعنوا للأمر الواقع و جلسوا من المجلس حيث أجلسهم الله و أخذ الأدباء منهم يترصَّدون مواضع الإنشاء من الإنشاد حتَّى إذا أتيحت لأحدهم فأطل برأسه إلى مكان ملائم أصبح فيه على مرأى و مسمع من الفنان و دعا له دعاءً لعله خالصا و توخَّى أن يكون دعاؤه منظوما لما في ذلك من رجاء الإجابة و استشفع ببركة ذوات بعض الحاضرين لا أعمالهم متَّبعا لا مبتدعا فجاء كافه " مسبولا" مقبولا لدى الفنان و جميع الحاضرين على حدٍّ سواء.قال " الوكَّاف" الأديب يخاطب الفنَّان و هو جاثم على ركبتين أي في المنزلة بين منزلتيْ الواقف و الجالس:
حسَّادَك ذوك ألِّ حسدوك == لا ظرُّ حِسَّك يالنَّهوال
بركت ذُ الكوم ألِّ لحكوك == حسَّك ماهُ ساهل و اسهالْ!
و لا بأس في النهاية أن أورد هنا قطعة هي دعابة منِّي للفنان المرحوم ابَّاه بن انكذي:
فلله در "ابَّاهِ" خير صحابه == نديم ظريف ما له من مشابه
إذ الفعل من أقرانه يستعيضه == بفعل حكيم ثاقب الرأي نابه
فلازم أهل العلم والفضل والتقى == غني بهم بغيرهم غير آبه
و آثر ترتيلا لآي وآلةً== لعلم بها يروم روض صعابه
فتى عن غناء في غنى وعن آلة== وليس الغنى إلا عن الشيء لا به
رحم الله السلف و بارك في الخلف.
عن الصفحة الشخصية للكاتب محمدن ولد سيدي الملقب بدنه