دقة - حياد - موضوعية

الموجة الجديدة للإرهاب/ السيد ولد اباه

2015-11-16 01:12:22

في مشهد غير مألوف في فرنسا منذ عهد طويل تم إعلان حالة الطوارئ وأغلقت حدود البلاد الجوية والبرية، كما أغلقت المدارس والجامعات

.

، واستخدم الرئيس أولاند عبارة «فرنسا تواجه حرباً حقيقية»، وهي العبارة المثيرة التي استخدمها الرئيس الأميركي السابق «جورج بوش» إثر تفجيرات 11 سبتمبر 2001.

أحداث باريس على فظاعتها وهولها ليست بالحدث الإرهابي الأول الذي تعرفه فرنسا ولا أوروبا إجمالًا، لكنها تميزت بسمات ثلاث جديدة: تزامن وتعدد الهجمات التي بدت شديدة التنظيم والتناسق، جهة الاستهداف ليست محصورة أو محددة، بل تشمل فرنسا الدولة والمجتمع والثقافة، الأطراف المنفذة ليست من خارج نسيج المجتمع، بل تدل المؤشرات كلها أنها من صميم الشارع الفرنسي ومن مكوناته المحلية.
من الواضح ربط الحدث الفرنسي بديناميكية التطرف الديني المسلح التي تجتاح المنطقة، خصوصاً أن «داعش» تنبت الاعتداء الإجرامي الذي تزامن مع تفجيرات ضاحية بيروت، لكن تداعياته وتأثيراته تندرج في سياق أوسع يتصل بانعكاسات ظواهر العنف الجديدة على تركيبة ومنطق الحقل السياسي في مستوى تركيبة السلطة وعلاقاتها بالمجتمع، بل بنمط شرعيتها وأسس قيامها المعيارية والقانونية.

ولابد هنا من تبديد حجاب الغموض الكثيف الذي تحمله عبارة «إرهاب» التي لم تعد قادرة على التعبير عن الظواهر الجديدة التي تجاوزت حيّز الدلالة المألوفة لهذه العبارة التي تطلق على كل ظواهر العنف الخارجة على الشرعية القانونية.

والواقع أن عبارة «إرهاب» عانت منذ بدايات استخدامها من إشكال أساسي يتعلق بتصنيف «الحروب الإرهابية» في سجل أصناف العنف المنظم المعروفة: الحروب بين الدول، الحروب الأهلية، وحروب التحرر الوطني.

الحركات الإرهابية الأولى رفعت شعار «الحروب الثورية» وصدرت في مجملها عن أيديولوجيات يسارية طوبائية رافضة لشرعية الدول الوطنية القائمة، كما أطلقت صفة الإرهاب على حركات التحرر الوطني التي تبنت العمل المسلح خارج أطر المقاومة السلمية المقننة.

وفي الحالتين كانت نقطة الانطلاق هي المقاربة القانونية الحديثة للدولة التي تتأسس على شرعية النظام التعاقدي الذي يكفل السلم العمومي ويجنب الجمهور شبح الحرب الأهلية، بينما يحصر الحرب المشروعة بالحرب الدفاعية في مواجهة اعتداء دولة أخرى. من هذا المنظور اعتبر روسو أن الحرب لا تقوم بين الأفراد وإنما بين أشياء دولة وأخرى، بينما اعتبر «ديدرو» الحرب «مرضاً عنيفاً يعتري الجسم السياسي».

وهكذا عندما بدأت ظواهر التطرف الديني المسلح في ثمانينيات القرن الماضي، نظر إليها كنسخة إسلامية من الإرهاب اليساري والقومي الذي اجتاح أوروبا في الفترة نفسها (الألوية الحمراء في إيطاليا والجيش الجمهوري الأيرلندي..). بيد أن زلزال أحداث 11 سبتمبر 2001 شكل لحظة تحول في مقاربة الإرهاب من حيث حجمه وتأثيره والسياق الإعلامي الجديد الذي جرى فيه، وقد انجر عن هذا التحول أمران أساسيان: مفهوم الصراع الثقافي الحضاري الذي تأرجح بين اعتبار الأصولية الإسلامية خطراً موازياً للتهديد النازي واعتبار الصراع أعم يتعلق بجوهر الثقافة الإسلامية وأنماط الحكم والمجتمع القائمة في العالم الإسلامي، ومفهوم الحرب الاستباقية الذي هو نسخة جديدة من «الحرب العادلة» المستمدة من القاموس اللاهوتي المسيحي الوسيط.

بيد أن قيام «داعش» أضاف إلى المعادلة عناصر جديدة أبرزها تحول حركية الإرهاب من الشبكة الافتراضية إلى واقع إقليمي متمدد في ظل انهبار واسع يعاني منه قلب المشرق العربي. التحول الأبرز الذي يحتاج للإشارة هنا هو أن الحروب الداعشية الفظيعة دخلت إلى قاعدة الحقل السياسي فحطمت جدار الفصل القائم بين أنماط متمايزة من الحروب: الحرب الأهلية بخلفية طائفية المشتعلة في عدة مناطق، حرب التحرر الوطني في مواجهة مخاطر التدخل الخارجي (الإيراني على الأخص)، حركة المقاومة السياسية المسلحة (في سوريا)، بحيث تحولت «الدولة» المعلنة إلى قاعدة مكينة لأخطر أنواع العنف المنظم داخل المجال الإقليمي الذي تتحكم فيه وخارجه.

النتيجة الكبرى المتوقعة من هذا التحول داخل المحيط القريب (بلدان المنطقة) وخارجها (أي في البلدان الديمقراطية الغربية) هي التغير الجذري في معادلة الشرعية والعنف التي قامت عليها الدولة الليبرالية الحديثة، بحيث سيتم القضاء على الكثير من مكاسب الحريات والحقوق المدنية والسياسية باسم واجب حماية المواطن من خطر لم يعد من الممكن التعامل معه بالأدوات القانونية التي تحصر العنف غير المشروع في الجريمة الجنائية أو الحرب الهجومية الخارجية.

كان الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشال فوكو قد لاحظ في نهاية السبعينيات أن حوادث الإرهاب لا تهدد فقط أمن الأفراد بل تهدد المؤسسات الضامنة لأمن الأفراد فتصبح عاجزة عن ضمان حقوقهم وأمنهم معاً، واعتبر أن المجتمعات الغربية سائرة إلى التحول من نموذج مجتمعات الضبط إلى مجتمعات الرقابة الشاملة التي تحول عيش الفرد وحياته الحميمة إلى مادة للتحكم والمتابعة. ما نشهده اليوم مع الموجة الجديدة من الإرهاب العنيف هو انتصار هذا السيناريو المخيف.

-------------------

*أكاديمي موريتاني

تابعونا على الشبكات الاجتماعية