دقة - حياد - موضوعية

المهم والأهم / بقلم محيي الدين ولد سيدي بابا

2018-07-16 03:04:17

من المُسَلّمات التي لا مراء فيها أن نمو الإقتصاد يرتكز على قاعدة أساسية هي « التخصيص الفعال للموارد « ، وينطبق ذلك على الموارد العمومية (الدولة والمجموعات المحلية) كما على الموارد الخصوصية (الأفراد والمؤسسات الخصوصية) ويشكل مجموعهما "إجمالي موارد الإقتصاد الوطني". بلغة ابسط : اختيار النفقات التي تترتب عليها أقل تكلفة ممكنة والتي سنجني منها أكبر نتيجة مفترضة. وهذا من أول وأبسط ما يدرس من أبجديات الإقتصاد.

.

سأكتفي هنا بهذا القدر من الحديث الممل عن الإقتصاد وضوابطه لأروي لكم قصتين كنت عليهما من الشاهدين :

1. في أحد الأيام وأنا في طريقي إلى المنطقة الصناعية قرب سوق السمك، لفت انتباهي تواجد جمعٍ كبير من الناس على أعلى الكثيب الرملي المحاذي للشاطئ وعدد من سيارات الشرطة والإسعاف.

دفعني القلق والفضول لأن أقترب وأسأل عما يجري فروى لي أحدهم أن اثنين من عمال أحد المصانع تشاجرا بسبب صحن طعام اشترياه معا ليتقاسماه وقت الغداء فغبن أحدهما الآخر فطلب منه أن يعيد إليه المائة أوقية (قديمة) التي ساهم بها في شراء الغداء فرفض صاحبه ذلك.اشتدّ الخلاف وتفاقم إلى أن قررا الصعود إلى الكثيب لحسم الأمر بينهما، كما يفعل الرجال، بعيدا عن أي تدخل من الآخرين. أثناء العراك صرع أحدهما الآخر فكسر عنقهوفارق الحياة على الفور.

للعلم، هؤلاء العمال يذهبون إلى الشاطئ للبحث عن العمل كل صباح. المحظوظ منهم يجد عملا في يومه ذاك يحصل منه على ثلاثة آلاف أوقية (أي ما يعادل ثمانية أو تسعة دولارات أمريكية) مقابل حوالي عشر ساعات من العمل الشاق أما أقلهم حظا فيعودون من الشاطئ صفر الأيادي كما أتوه.

القاعدة العامة لتخصيص الموارد عند هؤلاء العمال هي أن يصرف الواحد منهم مائة أوقية أو مائتين لطعامه ويعود بالباقي ليقتات منه عياله فهذا بالنسبة له هو أمثل صرف للموارد المتوفرة لديه.

2. ذات ليلة زارني أحد أصدقائي وبعد أن أمضى معي بعض الوقت خرجت معه لأوصله إلى بيته وفي طريق عودتي سمعت أصوات منبهات سيارات عديدة ورأيت أنوارها آتية من الخلف فركنت سيارتي على حافة الطريق حتى يمروا كي أواصل طريقي بأمان. أثناء انتظاري ذلك لفت انتباهي أنها كلها من أرقى أنواع سيارات الدفع الرباعي وأحدثها صنعا. لا يقل ثمن أرخصها عن خمسة عشر مليون أوقية وقد يصل بعضها إلى ما فوق الثلاثين مليونا. كان موكبا مبهرا) تبارك الله (،قد يفوق الخمسين سيارة وقد ينقص عنها بقليل. أغلب الظن،والله أعلم، أنها لبعض كبار مسؤولي الدولة ورجالالأعمال، بارك الله لنا ولهم وأدام عليناوعليهم الخيروالعافية.

وبينما أنا منهمك في تأمل المشهد رن هاتفي الجوال فأجبت فإذا به أحد معارفي يقول إنه مر بي وهو في الموكب واتصل خشية أن تكون سيارتي تعطلت أو لدي مشكلة ما. شكرته على لفتته الكريمة وعلمت منه، دون أن اسأل، أن الموكب لشاب أكمل لتوه دراساته الجامعية في إحدى الدول العظمى ويتجهون إلىدار العروس ليوصلوا لها "بونتي" كما هو العادة في حفلات الزفاف في طبقاتنا العليا، رعاها الله وحفظها.

نظرا الى انتشار هذا المشهدعندنا، والحمد لله على كل حال، فإن القاعدة العامة عند علية القوم، على ما يبدو، هي أن استعمال مليار أوقية (خمسون سيارة متوسط قيمة الواحدة منها يفوق العشرين مليون أوقية)، أي ما يناهز ثلاثة ملايين دولار أمريكي، لكي يوصلوا بعض الشكولاتة من بيت إلى بيت آخر في نفس الحي هو أمثل صرف للموارد المتوفرة لديهم.

تذكرت هاتين الواقعتين في الأيام الأخيرة وأنا أسمع وأقرأ عن الجدل القائم حول القمة الإفريقية والعشرين مليارا التي صرفت عليها والنتائج التي حصلنا عليها منها.

الحقيقة هي أنني ليس لدي أي معيار علمي وموضوعي أستطيع أن أساهم به في حسم ذاك الجدل القائم فلكل منا أن يرى فيه رأيه ويقيمه حسب موقعه فكل شيء مختلف إن نظرت إليه من موقع المعارضة، أكرمكم الله، أو من موقع الموالاة كما هو واجب كل مواطن سوي.

شرد بي ذهني البسيط وتبادرت إلى بعض التساؤلات : ماذا لو كان العاملان اللذان اقتتلا على مائة أوقية هما من يتحكمان في تخصيص موارد اقتصادنا بدل أصحاب الموكب؟ أكانا ليخصصا عشرين مليار لتنظيم اجتماع يدوم يومين ويجلب من الفخر والمجد والنفوذ ما لا يحصى ولا يعد أم كان سيدفعهما الجهل وحب الطعام إلى أن يخصصا العشرين مليار للتخفيف من وطأة الجفاف؟

ما هي نسبة النمو الإقتصادي الآن وهل كانت لتتزايد أم لتتناقص لو كنا أوكلنا مهمة تخصيص موارد اقتصادنا لهذين الرجلين؟

بعد أن تاهت بي هذه الهواجس، ألهمني الله أن أستعيذ به من الشيطان الرجيم ووساوسه، فتداركت نفسي وأدركت أن هذه التساؤلات في منتهى السذاجة والبلادة ولا يخوض فيها إلا معارض حسود حقود ليس لديه أي اطلاع على هموم العباد ولا مصلحة البلاد وربما يكون أيضا عميلا لدول أجنبية، فأحد الرجلين-عفا الله عنا وعنهما-مات جوعا (أو فقرا أو عنفا أو جهلا، لا يهم) والآخر قابع في السجن الآن إلا أن يكون قدوسعه العفو الرئاسي بحلمه وكرمه.

المهم أن الشكولاتة وصلت بكل أبهة وبهاء لبيت العروس وسيتحدث الجميع عن فخامة موكبها إلى أن تموت جميع بنات الحي كمدا؛ والأهم من هذا وذاك أن هذا الزفاف سيبقى في ذاكرة الجميع كأروع حفل شهدته مدينتنا وستبقى القمة العربية، عفوا الإفريقية، يتوارث أحفادنا أمجادها ومفخرتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
.

فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

تابعونا على الشبكات الاجتماعية