دقة - حياد - موضوعية

تأبين لأحمد ولد تتاه: الشمولي و"العلبة السوداء"

2023-05-23 11:26:04

"الأموات لم يموتوا، فالذين ماتوا لم يغادرونا أبدا".. هكذا قال الكاتب والشاعر بيراغو جوب.

لقد أغرقتني وفاة صديقنا أحمد ولد تتاه، يوم 15 مايو في نواكشوط، في بحر عميق من الحسرة وفي جو لا يوصف من الحزن. كان الفقيد على درجة عظيمة من الانسانية، وكان ودودا، كما كان دائم الاستعداد. فضلا عن أن التزامه الفكري كان كاملا وصادقا وبعيدا من الأنانية. وكان سهرُه لإراحة محدثيه أحد السمات الساحرة لشخصيته. لقد ناضل، خلال كل حياته، من أجل انتصار القضايا العادلة، مستندا على ثقافة واسعة صُبّت في براغماتية متعددة الزوايا. إنه إنسان حر، مناهض للجمودية، ومتحرر من الأثقال الاجتماعية التي تحط من قيمة الروح البناءة. جعل منه ذكاؤه، المستيقظ دوما، الشخصَ الساعي باستمرار إلى صقل الإجماع وتهذيبه دون أن يهدمه. أتذكر أنه خلال اجتماعاتنا الطويلة، تعوّد على أن يكون آخر من يأخذ الكلام كما لو أنه يريد أن يجعل النقاش الهائج معتدلا، ويعثر فيه على نقطة ارتكازه. والحقيقة أن الفقيد كان ينمّي يوميا حاسة الاستماع من خلال بحثه الشغوف الرامي إلى منح الأولوية لممارسة تمارين الفهم الشيق وتقدير الحجج المتناقضة من أجل مصالحة مختلف المواقف. لقد درس وحفظ ديالكتيك خلال تكوينه في الاتحاد السوفييتي، كما درس وحفظ مزاياها ونواقصها في وقت كانت فيه معارك الأفكار أفضل من معارك الدراهم، وفي وقت كان فيه الناس أكثر انشغالا بصراع الطبقات من انشغالهم بصراع المناصب. لا شك أن أحمد كان رمزا لجيل متميز في موريتانيا. إنه الجيل المؤمن بنفسه، والطامح إلى وحدة البلاد، والمستثمر في مصالحتها مع نفسها، والداعي إلى تعدد هويتها، والمنغمس في موسيقاها الراسخة، والعامل من أجل مستقبلها.

يخبرنا المسار المتميز للفقيد أحمد عن زهده الطامح إلى تعزيز العقلانية وترقية التلاقي مع الآخر الذي، بدونه، لا يمكن أن نوجد في الوضعيات الهزلية والعبثية داخل المفوضية السامية للاجئين، وذلك من أجل نجدة طالبي اللجوء الماليين في مخيم امبرّه وفصاله انييره بولاية الحوض الشرقي، بنفس الطريقة التي يستجيب بها للحاجات الإنسانية للمهاجرين في متاهات نواكشوط ونواذيبو. عندما التقيته للمرة الأولى في دكار، حدثني، وهو الدياليكتيكي المرهف، عن الثورة البلشفية، وعن حزب الشعب الموريتاني، وعن حرب الصحراء، وعن أب الأمة، وعن تاريخ باتريس لومومبا، وعن كوام انكوروما، وعن جمال عبد الناصر، وعن النزاع في فلسطين، وعن مانديلا، إلخ. وإذا ما اقتبسنا من جان بول سارتر، فقد استدعى أحمد، بمهارة، النهج السياقي الاجتماعي والسياسي وأهمية التفكير الممركز حول رهانات الانسان الموعود، فكان، إلى حد ما، شموليا يعمل كما لو أنه "العلبة السوداء". كان يعرف كيف يعيد بناء أحجية إعادة التشكل الاجتماعي-السياسي في البلد، وفق ما يجري في العالم، وبأسلوب يفهمه الجميع ويتلقاه الجميع بطريقة باترة وتربوية. كان يراجع باستمرار كل ما يعتقد أنه "ملم به" طبقا لموقف المتعلم الأبدي، الصارم مع نفسه، والمنفتح على مختلف المساهمات. كنت أتقاسم معه المواظبة على قراءة مقالات لبروفوسور عبد الودود ولد الشيخ، وكتاب موريتانيد للمرحوم حبيب ولد محفوظ، وكتاب "موريتانيا: رهان التحديات الكبرى" للرئيس السابق المرحوم المختار ولد داداه. ومن تبادلاتنا، تعلمت الكثير من تدقيقاته المتأهبة والموحية والناقدة والنهمة.

في هذه الظروف الخاصة، أتقدم بخالص التعازي إلى أسرته وأبنائه وزوجته ورفاقه السياسيين ومحيطه المهني، وأتضرع إلى العلي القدير أن يسكنه فسيح جنانه..

مولاي إسماعيل كيتا

تابعونا على الشبكات الاجتماعية