عرّجت إلى "جسر" "الحي الساكن"، أتخبّط بحثا عن طريق قد يوصلني إلى جنوب "المدينة الأفلاطونية". كان الحي متحركا، والجسر زريبة من الزنك عاصفة، وأمن الطرق لا يهدأون. لا شيء يوحي بالسكون. اختلطت السيارات، وعناصر أمن الطرق، والغبار، والجرارات، والأمعز، والبعر المنفوش، والقطط السائبة، وجثث الحمير، وصهاريج الغائط المُسال. خارطة ملتهبة تعطي الانطباع بحدوث انفجار بركاني في مكان ما من الحي رغم أنه ساكن. اقترب مني مراهق يرتدي بزة رجل الأمن المسؤول عن احترام القانون.. طلب مني أوراق السيارة. أعطيته إياها فحملها إلى حيث يحتسي الشاي، بكل أريحية، مع حانوتي داخل بقالته. نزلت وتحركت مثل "الحي الساكن"، فالعادة هناك تقتضي أن يتحرك كل شيء كي يعتذر الحي عن اسم كذوب، ملفق، ومُفترَى.. قلت له:
- لِمَ "تعتقل" أوراقي البريئة، يا وَلَدِي؟.. قال:
- لأنك تجاوزت الضوء الأحمر. قلت:
- لقد تجاوزتُ العمود حينما كان الضوء أخضر، ولما دخلتْ السيارة وسط الملتقى احمرّ الضوء. هذه ليست مشكلتي، فالأمر يعود، بالأساس، إلى زحمة ساعدتم في ديمومتها أو فشلتم في فكها فأرغمت السيارة على التوقف داخل الملتقى إبان احمرار الزر. قال:
- لا. وبدا غير مهتم بي ولا مكترث بما أقول.. مضى في سبيله خارج البقالة، متوجها إلى مكان الحشر، وسط أمواج من الضجيج وتموّجات من كل شيء ومن كل لا شيء..
- قلت: يا ولدي، حاول أن تسمع مني، وحاول ألا تظلمني. قال:
- لقد ارتكبت مخالفة وسنطبق فيك "القانون". قلت:
- الحقيقة أنك لا تريد أن تفهم أن السيارة دخلت وسط المنعرج بعد اخضرار الزر، وأن الزر احمرّ بعد ولوجنا للملتقى وبفعل فشلكم في تفريغ المنعرج.
أمضى ساعة يصارع دماغه كي يخرج منه حجة على ظلمه، ومن ثم أصَرّ، وتعنت، وكابر، وطلب من زميله سحب الرخصة وتسجيل غرامة بـ 10.000 آلاف أوقية عن مخالفة لم أرتكبها.
قلت له:
- يمكن أن تتهمني بكل شيء سوى خرق القانون. فكل حياتي أمضيتها، وأمضيها، في التنديد بالمخالفات والانتهاكات. لقد توقفتُ حين كان التوقف قانونيا وتحركت حين كانت الحركة قانونية. وبما أنني أمثل عيّنة من المواطنين المستباحين، وبما أنني تحملت مسؤولية التنديد بأي ظلم يمارس عليك وعلي وعلى فلان وعلاّن، فسأشجب، لا محالة، فعلتك لتفريغ شحنة الامتعاض، وأساسا لكي لا ترغمني، مثلما فعلت بمئات الموريتانيين، على القفز من فوق حائط المكسيك متوجها إلى أمريكا، فالسن والصحة لا يسمحان.
لم يعرني "رجل القانون"، المؤتمن على أمن الطرق، أي اهتمام.. واصل في تطاوله، وعاد إلى خلبطاته بجانب الفأل المسمى "جسرا". غادرتُ وأنا حائر في حادث معزول، وعَرَضي، وتافه، لا يستحق ما خسرتُ فيه من الحروف، لكن غرابته تستحق التوقف قليلا لأنه وقع بآليات منتحلة كلها وبأسماء لا تمتّ بصلة إلى مسمياتها: فالحي الساكن لا سكون فيه، والجسر مجازي لا وجود له، ورجل القانون يبذل كل طاقاته في تحطيم القانون!!..