...زلا شيء أقل شبها باليقظة من السلوك الذي تحدث عنه الشهود في طلب المتهم من ماليفوار أن يعطيه غطاءه.. و الذي لم يكن وديا لدرجة أنه أثار امرأة مسكينة.. و هذه بتصرفها الطبيعي في جنسها خاطبت ماليفوار قائلة:" أعطه غطاءك.. ألا ترى أنه يبحث عن سبب لكي يُحدث فتنة... و لكي يقتلك..؟" و رميه وعاء الدخان بطريقة عنيفة و كان سُلِم له بكل سخاء.. و إيعاز المختار لمجموعته بقوله" أطلق النار" و جواب أعمر" أطلق أنت النار.. يا مختار"... و الطلقة النارية المسددة من المتهم.. و ليس ذلك من على المنكب.. و إنما من الأعلى إلى الأسفل.. في اتجاه خاصرة ماليفوار.. و البارود الذي أشعل النار في ثوب هذا الأخير .. و عبارة الدهشة التي ترددت على الفم الملائكي للضحية: " يا مختار.. لقد أضرمت فيَ النار.." و هذا الأمر الجديد بإطلاق النار و المنفذ لا من طرف الفرسان الثلاثة، كما قال المختار، و إنما من طرف أعمر.. و هو الوحيد الذي أصاب ماليفوار في رأسه.. و أخيرا الإصابات القاتلة التي وجدت في أجزاء الجسم التي أصابها التي أصابها المختار و التي اِعترضتها تميمة ماليفوار.. كل هذه الشهادات المنقولة منذ سبعة عشر شهرا من طرف شهود مبرزين و بدون اختلاف جوهري... ألا تبدو كافية لتؤلف أمام أعينكم لوحة واضحة و مخيفة للاستنارة..
.
و حقيقة.. فإن التكروري بابكار، المرابط، المُبرز في الإشهاد.. و الذي غاب.. و لا تعرفون إلا شهادته الكتابية التي رسمها أما قاضي التحقيق و صرح فيها أن المختار أطلق النار في الهواء.. و أنه لم يحضر مع الآخرين إلا لكفهم عن إحداث الشر.. و اتفق محمد البيضاني، رقيق المختار و محمد الآخر ، المولى.. معه على ذات الشهادة.. و لكنهم اتفقوا كلهم أنهم كانوا على بعد ما يناهز 100 خطوة عن مسرح الجريمة .. و كلهم مخلصو الود للمتهم..
فهذه الشهادة التي لم يمثل أصحابها أمامكم ليكرروا الإدلاء بها أمامكم عندما تقارنوها بشهادة طاقم ماليفوار الذين كانوا على بعد خطوات فقط من المسرح .. و الذين رأوا كلهم و سمعوا التفاصيل الدقيقة للحدث.. و الذين ليس لهم هدف معين في إدانة المختار دون غيره{ تجدون مصداقيتها}..
أما ما يخص البصيرة { أو سبق الإصرار} فلن نقول فيها بنت شفة ما دامت النقاشات قد أكدتها... و سيكون بإمكاننا القول في تصرف المتهم إن هنالك كمينا { كان منصوبا للضحية}.. فيكفينا أن نقرأ فقط المادتين 297 و 298 من قانون العقوبات اللتين تنصان على هذه الظروف الخطيرة.." انظر المادتين المذكورتين أعلاه"..
هل إن المتهم مذنب في التدبير و التمالؤ في القتل العمد على شخص مافال و رجال من طاقمه..؟ هذا فضلا عن السرقة و الجرائم الأخرى الناتجة عنها..
هل هو مذنب في ظرف سبق الإصرار الذي تتصف به عملية الاغتيال؟
بإمكاننا أن نقولها، سادتي، فإنه ليس لدينا ما يثبت هذه التهمة إلا افتراءات خطيرة و شهادة شخص واحد هو المسمى مابووي.. الذي صرح، بعد أدائه اليمين أمام القاضي أنه عند مهاجمة السفينة عاد المختار مع أعمر ولد بوشارب و البيضان الآخرين.. و لكنه كان منعزلا قليلا في الداخل.. و هو نفسه اعترف لكم أنه كان هناك.. و أن سمو مكانته و الإدارة التي قاد بها عملية اغتيال جاك ماليفوار و مروره في صباح ذلك اليوم أمام لافاي برفقة أعمر .. و أخيرا شهادة مابووي تبدو لنا دلائل واضحة على أن المختار كان هنا للسهر على تنفيذ أوامره... بقيت لنا بعض الشكوك حول التهمة في القضية الجنائية، و الشك، سادتي، قضية مقيتة.
فإذا أعلنتم، سادتي، أن المتهم مذنب فإنه لن تبقى، دائما، قضية سبق الإصرار مستبعدة..لأنه من الملاحظ أن كل الانتقام و كل الفوضى و كل الجرائم الممكنة كانت منْوية منذ فترة.. أي من اليوم الذي تم فيه سجن إعلي ولد بوشارب.. و هذا لا يحتاج إلى برهنة..
و هكذا أنهينا، سادتي، فحص الجرائم المسجلة وتبقى الآن قضية الحق العام..فهل تحاكمون طفلا أو رجلا تاما، مرتكب جريمة منفذة بدون نية أم جريمة مرتكبة بنية القتل العمد؟
و بصيغ أخرى.. فهل كان عمر المختار ست عشر سنة عند ارتكابه الجرائم المتهم بها؟
و إذا كان عمره أقلَ من ست عشرة سنة.. فهل تصرف دون أو مع سبق إصرار؟
ليس هنالك أي من الشهود المبرزين عندنا أو عند محامي المختار من حضر ميلاد المختار.. و لكن هنالك ما يستشف من الشهادات الأساسية التي أدلى بها الشهود في الملف أنه من الممكن أن يكون ميلاده إبان معركة { إنتيمركاي} التي كانت بين ترارزه و إدوعيش في بحر سنة 1816 مما يفرض أن يكون عمره الآن ست عشرة سنة و نصف السنة.. و عليه يكون عمره عند ارتكاب الجريمة لا يتجاوز خمس عشرة سنة فقط..
و قد رآه آحادٌ أبان المعركة المذكورة في حضن أمه و رآه آخر و هو يرضع ثدي أمه.. و هنالك آخر أعار أباه قالب سكرٍ لزوجته عند وضعها به..
هذه، أيها السادة، تحديدات دقيقة و الشهادات التي تدل عليها متفقة بامتياز.. و لكن كيف يمكننا أن نقتنع بها في داخلنا..؟
لأننا نعرف، بما لا يدع مجالا للشك كل ما يعرفه الناس هنا مثلنا.. فالشهود الذين أقسموا على أن يتكلموا دون خوف.. يظهر منهم بعض الغموض في هذا الجانب.. أو، على الأقل، إذا كانون لا يخشون شيئا اليوم فإنهم جعلوا من شهاداتهم وسيلة لتفادي نتائج صعبة المراس.. و سنقول إنهم أقسموا على أن يقولوا الحقيقة، كل الحقيقة، و لا شيء غير الحقيقة..
و لكننا نريد أن نتعامل مع هؤلاء الشهود بنوع ما من التصرف و الحذر.. و لا نقول لهم على ما ذا يدل عندنا ما يعنونه بكلمة " الحقيقة...
هنالك، سادتي، عندكثير من الناس، و في عديد الظروف، نوعان من الحقيقة:
ـ بعض من الحقيقة مطلق و إيجابي و يقال إنه ملموس..
ـ بعضٌ منها نسبي، تواضعي،وهمي.. و هو بالفعل مثالي..
و هكذا توجد أحداث تاريخية ذات حقيقة مطلقة .. بيد أنه من بين المؤرخين، و في جميع الأمم و في جميع المجتمعات.. وجد رجال اهتموا بمقاضاة في قضايا عمومية دون أن يحصلوا على تفويض في هذا الموضوع..
هؤلاء الرجال لديهم مبدأ أن الحقيقة تصير كذبا عندما تشكل نوعا من أنواع الخطر.. و لا يحتسبون أنهم يكذبون عندما يلفقون القضايا بطريقتهم الخاصة عندما يزكون ما يعتبرونه مطابقا للصالح العام و متفقا معه.. و هذه الحقيقة لا توجد سوى ذلك إلا في أهوائهم الشخصية في تعاطفهم مع أنظمة معينة أو في حالة مخاوف خيالية.. و على العموم عندما تتداولها الأفواه و تنتقل من جيل إلى جيل.. ينتهي بها الأمر لتصبح غير قابلة للنقاش..
هذه أيضا، سادتي، حقيقة مطلقة.. و هي أن تكون خيِرا و فاضلا.. هنالك أشخاصٌ يجيبونكم على ذلك أن الحقيقة بالنسبة لهم هي السعادة و الغنى... و لن تُخرجوهم من هذه الحلقة المفرغة..
و في الأخير، و هذه حقيقة إيجابية و مطلقة تنيرها لنا الشمس.. و مع ذلك.. لا يخلو الأمر من أشخاص يريدون أن يجعلوكم تشكون في ضوء النهار عند الظهيرة..
فكل الشهود الذين أراد دفاع المتهم إثبات السن بشهادتهم ينتمون إلى إحدى هاتين الفئتين.. فمتهم من أخذ للحقيقة المصلحة العامة بمفهومها على طريقتهم.. و التي لا تتوفر فيهم صفة مناقشتها.. و منهم من اعتمد كثيرا على مصلحته الخاصة.. و أخيرا هنالك واحد.. وُجِد وحده.. و وحده فقط أمام قضية ذكرها وحده .. ينعدم فيها المنطق و تخلو من المعقولية لدرجة أننا لا نعرف كيف نصفها..
فالسيد آلانه، شقيق العمدة جوزيف، أراد أن يجعلكم تظنون أن المتهم المختار كان عمره سنة 1827 لا يتجاوز ثمان سنوات.. مما يجعله لا يتجاوز عمره ثلاث عشرة سنة في عام 1832...
فإذا كانت هذه مزحة أرادها ألانه.. فإنه كان ينبغي لهه أن يختار مكانها و زمانها..و الأشخاص الذين يتوجه إليهم بها..
فالشهود الذين استمعنا إليهم أدلوا بشهادات متناقضة.. تحدثوا بكثير من الاحتشام و الحذر.. حتى كان لا بد من طرح الأسئلة واحدا واحدا.. عسانا نحصل على كلمات قليلة منهم...
بينما كان شهود المختار يتكلمون تلقائيا و بثرثرة و استفاضة... فماذا يُستنتج من ذلك؟
يتواصل