دقة - حياد - موضوعية

محمد علي.. جمالية العنف / د. السيد ولد أباه

2016-06-13 06:44:53

أثار موت بطل العالم الأسطوري في الملاكمة «محمد علي» أصداء واسعةً في بلاده وخارجها، وتركز الأثر في أوساط الجالية المسلمة في الولايات المتحدة وأوساط السود الأميركيين الذين اعتبروه أحد رموز مقاومة التمييز العنصري وآثار العبودية، التي كان جد الفقيد من ضحاياها، وقد تخلى هو بعد إسلامه (1964) عن الاسم العائلي (كلاي) الذي يذكِّره بهذه الجذور

.

لم يكن محمد علي مجرد ملاكم موهوب، بل كان صعوده في بدايات الستينيات محطة فاصلة في تاريخ هذه الرياضة العنيفة التي تختزن طقوساً مسرحية باقية من مبارزة الموت التي كانت سائدة في العصور القديمة، عندما كان مشهد الاقتتال بين الأبطال فرجة مفتوحة للعموم. ومع أن الملاكمة وضعت لها منذ منتصف القرن التاسع عشر قواعد وأخلاقيات تتناسب مع النزعة الإنسانية للعصور الحديثة، فإنها لا تزال أكثر أشكال الرياضة عنفاً (إلى جانب مصارعة الثيران الإسبانية) في العالم الراهن.

 

فمقارنة بكرة القدم التي هي الرياضة الجماهيرية ذات الشعبية الواسعة، تتميز الملاكمة بالقسوة والعنف الجسدي والنفسي، بالإضافة لكونها رياضة فردية تكرس صورة البطل الاستثنائي المتفرد، بينما تعبر كرة القدم عن رمزية الهويات الجماعية والانتماءات القومية المتصارعة.
وكثيراً ما تساءل علماء الاجتماع والإنتربولوجيا المعاصرين: هل تقوم الملاكمة على تأجيج العنف وتكثيفه أم الغرض منها تنفيس العنف وإقصاءه من خلال رمزية المصارعة التي وضعت لها قواعد دقيقة لأنسنتها؛ من قبيل تحريم الضرب في المناطق الحساسة من الجسم، ومنع التعرض للخصم حال سقوطه، وعدم استخدام القوة إلا في إطار منطق المباراة. من هذا المنظور، يمكن أن نعتبر الملاكمة -كما تعتقد التقاليد البوذية- نمطاً من التربية الأخلاقية لِلَجْم النفس عن الانفعالات الشريرة، من كراهية وانتقام وضعف، فيكون العنف المستخدم فيها ليس مقصودا لذاته بل هو طقس تطهيري وتعويضي على غرار الأنساق الرمزية الكبرى التي تجسد انتقال الإنسان من الحيوانية العنيفة إلى التمدن السلمي
.

وكان محمد علي نفسه مؤمناً بهذه الفلسفة الإنسانية للملاكمة، وهو الذي حولها إلى طقس احتفالي تتداخل فيه الضربة العنيفة بالرقصة الرشيقة، إلى حد أن مشيته الراقصة في الميدان ألهمت الكثير من الفنانين، منهم المطرب الشهير «مايكل جاكسون» الذي لم يكن يخفي إعجابه الشديد بالفقيد الذي كان يقول عن نفسه بلغة شاعرية، إنه «يقفز مثل الفراشة ويلدغ مثل النملة».

منذ بداية الستينيات إلى اعتزاله عام 1981، اشترك محمد علي في 108 مباراة انتصر في مائة منها، لعل أبرزها المصارعة الشهيرة عام 1974 في كنشاسا (عاصمة زائير سابقاً والكونغو الديمقراطي حالياً) التي هزم فيها بطل العالم «جورج فورمان» في مبارزة عرفت بنزال الغابة، وقد تحول إثرها إلى بطل أسطوري عمت شهرته الآفاق. انقطع محمد علي عن الملاكمة عام 1966 بقرار من المحكمة الأميركية التي أدانته بالسجن والغرامة لرفضه المشاركة في حرب فيتنام، التي اعتبرها حربا جائرة وغير مشروعة، قبل أن يرجع إليه لقبه ويعاد له اعتباره عام 1971، فيستأنف مساره البطولي في عالم الملاكمة.

ومع أن شهرة محمد علي ارتبطت بسجله الاستثنائي في الملاكمة، باعتباره أهم بطل فيها خلال العصر الحديث، فإن جانباً كبيراً من الاهتمام به في العالم العربي الإسلامي يعود لاعتناقه الإسلام عام 1964، وقد عرف الرجل باعتزازه الشديد بدينه الجديد ودفاعه عنه، متناغما مع اتجاه قوي في أوساط السود الأميركيين اتخذ من الإسلام هوية بديلة.

ومن المفارقات المثيرة أن منافسه الشهير «جورج فورمان»، تحول بعد اعتزاله الملاكمة إلى العمل الديني فأصبح قسا في مدينة تكساس الأميركية.

وكانت جنازة محمد علي الضخمة آخر طقس من مشاهد الحياة الحافلة لهذا البطل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وحوّل الملاكمة إلى مسرح احتفالي جمالي رغم قساوة المشهد وعنف المواجهة.

المصدر: الاتحاد

تابعونا على الشبكات الاجتماعية