ذاك بعد من فَمْ عاد يصنّت لُ ..
خبرتُ الخبير التربوي و القريب كذلك - إذ له خؤولة من الأسرة يعتز بها - محمذن بن باگَّا ما بين 2012 و 2015 في اللجنة الوطنية المستقلة للإنتخابات في أصعب ظرف عرفته البلاد في تجربتها الديمقراطية .. كان من ضمن 7 حكماء يشكلون لجنة تسيير تلك السلطة العمومية المستقلة الناشئة التي تخلف الدولة (حتى لا أقول وزارة الداخلية ) في تنظيم الانتخابات .. وكنت مدير العمليات الانتخابية واللوجستيك .. كان العضوان : محمذن ولد باگَّا و أحمدْ ولد اغناه الله هما العقلان المدبران في اللجنة الانتخابية وكل أعضاء اللجنة عقول مدبرون ..كانا يصرّان على استقلال اللجنة الانتخابية عن الجهاز التنفيذي و والله لم يكن ذلك بالأمر الهيّن ووالله إنهما لم يألوا فيه أي جهد .. وربما خاطرا بل خاطر جميع الأعضاء في سبيل ذلك ..و بالصرامة الحازمة لأحمدْ و الحكمة الهادئة لمحمذن استطاعت اللجنة الانتخابية أن تخوض مغامراتها مع الحكومة بنجاح ولو شئت قلت بسلام .. وسأقتصر على مثالين فقط ذويْ دلالة خاصة من تلك المغامرات .
أولا: كان الرئيس السابق يريد للإنتخابات أن تنظم في الفصل الأول من سنة 2013 أي بعد أقل من سنة من إنشائها وهو أمر مستحيل ..و لم تزل اللجنة تسوِّف حتى شهر يوليو فأصدرت بيانا تعلن فيه عن تنظيم الانتخابات في فترة لم تتشاور بشأنها مع السلطات العليا للبلد تمتد من كذا الى كذا . والأدهى من ذلك وأمر أن اللجنة أرسلت بيانها زوالا إلى مختلف وسائل الاعلام الرسمية للنشر .. وهكذا فوجئ فخامة الرئيس كما قال بالبيان ينشر في إحدى القنوات فاستشاط غضبا و أمر بعدم نشره أو إذاعته فحذفته التلفزة الوطنية من شريط الأخبار على الشاشة .ومن هنا كانت البداية.
ثانيا : كانت اللجنة محرجة من بعض المقتضيات المتضمنة في القانون المنشئ لها والتي تسند مسؤولية الاحصاء الانتخابي إلى وزارة الداخلية بما يترتب عن ذلك من إعداد اللائحة الانتخابية .. إذ مقتضى ذلك - كما يقول بدر الدين رحمه الله - تصبح اللجنة جهازا تستخدمه وزارة الداخلية لضمان تصويت الناخبين الذين تنفرد بتسجيلهم كما تشاء على اللائحة الانتخابية !والدليل على ذلك كما يقول هو إنشاء الادارة العامة لدعم المسار الانتخابي DGAP التابعة للوزارة و التي توكل إليها هذه المهمة بموجب القانون .ولم يزل الحكماء في حيرة من أمرهم حتى اطلعوا على تناقض بين تلك المقتضيات و مقتضيات أخرى من قانون نافذ آخر في المدونة الانتخابية. وتنبهوا إلى أنه يمكن اتخاذ ذلك التناقض ذريعة لمراجعة الموضوع .. ولعلي كنت أول من تنبه إلى ذلك من الفنيين فكلمت المستشار القانوني للجنة البروفسورأحمد سالم بن ببوط رحمه الله فإذا به يسرّ الأمر في نفسه لأسباب سنتبينها لاحقا. كان ببوط رئيس اللجنة القانونية للحوار المنظم 2011م والمنبثق عنه إنشاء اللجنة الانتخابية أصلا. المهم أن إثارة موضوع التناقض بين النصوص كان سببا في انكشاف الحقيقة ولعل في نشرها في هذه الايام التي يتجدد فيها الحديث عن التشاور أو الحوار ما يبعث الى ضرورة الحيطة في ما يتعلق بتنفيذ المخرجات لاحقا. تبيّن من خلال البحث أن الجهات الرسمية المختصة التي أعدت النصوص القانونية القاضية بتجسيد مخرجات الحوار في نصوص قانونية لم يات عملها طبق الأصل.إذ اقتطعت لوزارة الداخلية صلاحيات هي من صميم مهمة اللجنة الانتخابية المزمعة بموجب مخرجات الحوار.لم تسلم وزارة الداخلية بالأمر متمسكة بالقانون المنشئ للجنة الانتخابية و اعترضت اللجنة مستطيرة بالقانون المنشئ للبلديات ..و هكذا انطلق النقاش القانوني محتدما أولا في مباني اللجنة قبل أن ينتقل إلى مقر الوزارة الاولى حيث دام أسابيع بين الفنيين من اللجنة الانتخابية و الفنيين من وزارة الداخلية بإشراف الوزير الاول بواسطة مستشاره الفني اديالو باتيا رئيس المجلس الدستوري حاليا.
و لم يحسم ذلك الجدل القانوني الا بعد أن تدخل العميد بيچل (وكان رئيس لجنة متابعة الحوار هو وأحمد بن باهيه) فأخذ نص المحضر المتضمن مخرجات الحوار و النص القانوني المعني المفترض أنه مجسد له و أطلع رئيس الجمهورية على ذلك فحسم الموضوع بأن أمر على مضض بإسناد مهمة الاحصاء الانتخابي و إعداد اللائحة الانتخابية الى اللجنة الانتخابية طبقا لأحكام الأمر القانوني المنشئ للبلديات و خلافا للقانون النظامي المنشئ للجنة الانتخابية !. والطريف أن ذلك خلق تناقضا جديدا إذ أنه حصل بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء يتناقض مع مقتضيات قانونية صريحة .. ولم يتم حسم الخلاف قانونيا الا في 2018. و لكن ذلك التناقض لم يحسب بصورة فعلية صريحة الا عندما ألغى الوزير الحالي محمد سالم بن مرزوگ مؤخرا الادارة العامة لدعم المسار الانتخابي برمتها من الهيكل التنظيمي لوزارة الداخلية واللامركزية واستبدلها بمكلف بمهمة يعهد اليه بمجرد التنسيق مع اللجنة الانتخابية .
ولكن الصدام بين السلطات العليا واللجنة الانتخابية ظل محتدما .. و من الامثلة الحية على ذلك أن الحكماء قرروا مرة أن يشتروا لأنفسهم سيارات فأخرجوا ذلك في الميزانية وبعد أن تم اعتمادها من قبل الحكومة ورصد المبلغ قاموا باقتناء تلك السيارات متبعين في ذلك المسطرة الادارية المتبعة و حرصوا على أن تسلم من العلامة الرسمية Sg بما يترتب عن ذلك من دفع الرسوم الباهظة للجمارك و ترقيم السيارات ترقيما عاديا .. وزعت السيارات على المعنيين و لم يمض أسبوع حتى دخل مسؤول سام موفدا من وزارة النقل و لم يغادر مقر اللجنة إلا و هو يصطحب معه تلك السيارات العشر التي تم توزيعها لاحقا على مسؤولين سامين في دوائر إدارية أخرى !
و إذا كان قد حصل مثل هذه التصرفات في بعض الأمور الاجرائية البحتة فما بالك بتلك المتعلقة بصميم الانتخابات و نتائجها ؟! ظل الحكماء في اللجنة الانتخابية مصرين على أن لا تتعدى الحكومة صلاحياتها المنصوصة في القانون والمحصورة في ثلاث نقاط فقط هي : تأمين الانتخابات و تمويل الانتخابات و التعاون بخصوص وضع المواصفات الفنية لبعض المعدات الانتخابية عند طلبها و النظر في مدى مطابقتها لتلك المواصفات عند الاستلام و قد انحصر ذلك في بطاقة التصويت الوحيدة المؤمنة قبل أن تتاح طباعتها محليا ..
وظل الخلاف محتدما و في كل مرة كان عضو اللجنة محمذن هو حامل اللواء في الحرص على استقلالية اللجنة و الصرامة في ذلك و في ذات الوقت هو الأقدر على تبديد غيوم الخلاف مع السلطات العليا تساعده في ذلك- كما كان يقول دائما- مرونة الوزير الاول مولاي ولد محمد لغظف .قال لي محمد محمود ولد محمد الامين رئيس حزب الاتحاد آنذاك إن محمذن بن باگا يحسب من الادمغة الوطنية حقا.
قلت مرة إنني ما بهرني أحد مثلما بهرني محمذن بن باگّا في ذكائه الخارق وحصافة رأيه . فما استجمعتُ قوايَ مرة و اجتهدت في التعبير بما أوتيت من قوة و عرضت عليه موضوعا مهما كانت دقته الفنية إلا و نبهني برفق إلى جانب حاسم في الموضوع ربما أخطأت التقدير بشأنه أو غاب عن تفكيري أصلا ..بهرني كذلك في وطنيته وكان يقول لي دائما أشعر بالإشمئزاز من الاجتماعات أو المتدخلين المصطفين في البرامج الاعلامية المشتركة التي لا تعكس تنوع الشعب الموريتاني! و كثيرا ما كانت اختياراته للعمال تأخذ في الحسبان ذلك المعيار بل وكثيرا ما كان يصحح بمبادرة شخصية منه بعض تلك الاختلالات حتى ولو كان ذلك على حسابه . و ربما حدثني عن بعض المراحل الدراسية ومنها ظهور اسمه في مطلع الستينات على رأس لائحة الناجحين في شهادة الاعدادية و كيف أن الأمير محمد فال ولد عمير رحمه الله قد فرح كثيرا بذلك التفوق بعد أن علم به لاحقا..
وربما حدثني كذلك عن مساره النضالي ضمن حراك الكادحين و من الطريف ما رواه لي مرة من أنه كثيرا ما كان يتعرض للإعتقال هو و أخوه الاديب محمدْ ولكن والده العلامة باگّا وهو من هو علما و سيادة و وجاهة ، ظل دائما يحجم عن التدخل لصالحهما لدى السلطات بحجة أنه " ما يدخلْ بيْن الحكومَ ؤ شعبهَ "!
قيل إن أهل إيگيدي ثلاثة : محمد ولد محمد صالح رحمه الله و محمذن ولد باگَّا و محمدْ ولد أحمد ولد ميدّاح حفظهما الله !
رحم الله السلف وبارك في الخلَف .