دقة - حياد - موضوعية

. فاصيل محاكمة وإعدام الأمير المختارولد اعلي الكوري(ح6)

2017-03-26 22:34:28

 قبل الدخول في فقرات الترجمة الجزلة التي قام بها الأستاذ الكبير سيدي ولد متالي حول تفاصيل اعتقال ومحاكمة وإعدام الأمير التروزي المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي، نرى من الضروري أن نوضح للقارئ الظروف والملابسات السياسية والصراعات السلطوية المحيطة بحياة هذا الأمير اليافع الذي تربى يتيما وسعى إلى الإمارة وهو مراهق

.


.





لقد حكمت إمارة الترارزه أسرتان من عقب اعلي شنظوره ولد هدي ولد أحمد بن دامان. فبعد أحمد بن دامان، مؤسس الإمارة إثر  معركة انتيتام سنة 1631، والمتوفى سنة 1636، تأمّر ابنه هدي ما بين 1636 و 1684، ثم تولى بعده الإمارة ابنه السيد ثم بعده اخوه أعمر آكجيل ليصل الحكم إلى اعلي شنظوره الذي تأمر من سنة 1703 إلى سنة 1726. وحسب محمد فال ولد بابه وولد أبو مدين فقد تأمر بعد اعلي شنظوره أخوه الشرقي ولد هدي، إلا أن المختار ولد حامدن وبول مارتي يحذفان الشرقي من لائحة أمراء الترارزه، علما بأن خلافة الشرقي لأخيه اعلي شنظوره، على شؤون الإمارة، خلال مقامه في المغرب بحثا عن السند ضد البراكنه، لا يرقى إليها الشك.

بعد اعلي شنظوره، بدأ عهد أهل أعمر ولد اعلي الذي تواصل لمدة 74 سنة (تزيد أو تنقص قليلا حسب الخلاف في تواريخ الوفيات). وقد تميزت إمارة أهل أعمر ولد اعلي بأمور كثيرة، من أهمها أنها لم تشهد انقلابا واحدا لا هادئا ولا دمويا، بل لم يمت من أمرائهم مقتولا غير واحد توفي في معارك خارجية (ضد تحالف بين إمارة البراكنه والدولة الألمامية)، كما أنها الإمارة الوحيدة التي لم تعتمد التوريث الأبوي (أي أن الإمارة وصلت من أعمر ولد اعلي إلى ابنه المختار، لكنها من عهد المختار تعاقبت بين الإخوة وأبناء العمومة (داخل أسرة أهل أعمر ولد اعلي) إلى أن تم الانقلاب على حكمهم.

أول من حكم من أسرة أهل أعمر ولد اعلي هو أعمر نفسه الذي مارس السلطة الأميرية ما بين 1726- 1756، تولى بعده الإمارة أبنه المختار ولد اعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين 1756- 1771، وتولى بعده أخوه اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين  1771- 1784 (قتله جيش المامي عبد القادر: أحد أمراء الدولة الدينية في فوتاتورو المتحالف مع إمارة البراكنه). تولى بعده الإمارة ابن أخيه محمد الجواد ولد المختار ولد أعمر، وذلك ما بين  1784- 1792، ثم تولى بعده الإمارة أخوه عاليت ولد المختار ولد أعمر في الفترة ما بين 1792- 1794، ثم تولاها بعده أخوه أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي المعروف بـ"أعمر ولد كمبه" الذي حكم ما بين 1794- 1800، وتوفي في زهرة العمر دون أن يترك أي وريث بالغ من جميع أفراد أسرة أهل أعمر ولد اعلي

ثم يصل الحكم، في انقلاب أبيض، إلى أهل المختار الشرقي الذين عـُـرفت إمارتهم بـ"إمارة أهل محمد لحبيب".، وكان أعمر ولد المختار ولد الشرقي ولد هدي أول من حكم منهم في الفترة ما بين 1800-1829.

وكان امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي أول بالغ من أسرة أهل أعمر ولد اعلي يقود معارضة مسلحة ضد حكم أعمر ولد المختار (ولد الشرقي)، فحاول، خلال أيام مشهودة، استرداد الحكم، واستنجد في سبيل ذلك بحلفاء من داخل قبيلته، ومن أبناء عمومتهم أولاد دمان، ومن أصهاره إدوعيش خاصة في عهد الأمير محمد ولد امحمد شين.

وتولى الإمارة بعد أعمر ولد المختار ابنه محمد لحبيب الذي حكم في الفترة ما بين 1829-1860، وقتل من قبل أبناء إخوته في محاولة انقلابية فاشلة، ليتولى الحكم من بعده ابنه سيدي ولد محمد لحبيب الذي تأمّر في الفترة ما بين 1860-1871 وسقط قتيلا في انقلاب دبره أخوه أحمد سالم (الأول) ولد محمد لحبيب. وقد عرفت فترة إمارة أحمد سالم، الممتدة لثلاث سنوات، مناوشات ومعارك طاحنة مع أخيه أعلي (ابن اجّمبت: ملكة الوالو) انتهت بقتل الأول في شهر مايو 1873، ليستتب الحكم لأخيه الأمير اعلي ولد محمد لحبيب الذي قتل سنة 1886 في انقلاب دبرته جماعة من أولاد أحمد بن دامان من ضمنها أبناء أخيه خاصة أحمد الديد (الأول) ولد سيدي ولد محمد لحبيب ومحمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب. وهنا أخذ محمد فال ولد سيدي السلطة الأميرية سنة 1886 في جو مضطرب لم يشهد استقرارا حتى قتل بعد أربع سنوات (سنة 1890) على يد ابن عمه أحمد سالم (الثاني) ولد اعلي (الملقب بياده)، وقيل ان محمد فال تنازل عن الإمارة لعمه أعمر سالم قبل مقتله، وإن تأكد ذلك يكون أعمر سالم قد حكم من 1890 إلى  حين مقتله في إحدى معارك الصراع على السلطة سنة 1893. ثم استتب الأمر للأمير أحمد سالم ولد اعلي (بيّاده) من 1893 حتى اغتيل سنة 1905 على يد جماعة يقودها أحمد الديد (الثاني) ولد محمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب.

في هذه الفترة بالذات دخلت الإمارة في العهد الفرنسي، فتأمر أحمد سالم ولد ابراهيم السالم وأحمد الديد ولد محمد فال بالتزامن تقريبا، حتى توفي أحمد سالم سنة 1929، لتبقى الإمارة عند أحمد الديد ولد محمد فال ولد سيدي حتى يوم وفاته سنة 1944، ويرثها منه ابنه محمد فال (ولد عمير)، ثم تعود لعقب أحمد سالم ولد ابراهيم السالم (ممثلا أولا في احبيب ولد أحمد سالم).

في هذه الظروف، كانت المصالح الاقتصادية، المتمثلة في تجارة الصمغ وما تدره من ضرائب، وفي الإتاوات والإكرامات الممنوحة من قبل الفرنسيين والوسطاء التجاريين، قد طغت على كل الجوانب الأخرى، فتفكك، شيئا فشيئا، حلف أهل أعمر ولد اعلي تبعا لموازين القوة، وقلّ عددهم هم أنفسهم، ولم تنجح محاولات امحمد ولد اعلي الكوري في استعادة السلطة بالقوة، إلا أن أهل أعمر ولد اعلي، رغم كل ذلك، ظلوا يتمتعون بوزن كبير وبمكانة قوية جعلت حضورهم في الإتاوات والإكرامات بارزا، بل ظلوا يرفضون التنازل عن نصيبهم تحت أي ظرف. في هذا السياق يظهر الشاب المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري الذي ترك له والده أمجادا داخلية، وعلاقات كبيرة خارجية، وأموالا طائلة في عاصمة المصالح الفرنسية الإفريقية: سان الويس.

لقد مات عنه والده وتركه يتيما، فتربى في سان الويس (اندر) حيث عقاره وأمواله، وحيث عايش الفرنسيين (وكان يتكلم الفرنسية بطلاقة، كما كان يلبس الزي الفرنسي بإتقان، ويضع ربطة العنق تماما مثلما يضعها الأوربيون). وقد وصفته وثائق المستعمر بأنه شاب وسيم ذو طباع حضرية راقية لا يتحلى بها أي بيظاني حينها.

وكان هذا الشاب، المولود بين 1810 و1815، يسعى لاسترداد السلطة على خطى والده امحمد ولد اعلي الكوري وأبناء عمومته أولاد أعمر ولد اعلي الذين لم يبق منهم أي بالغ عندما توفي آخر أمرائهم أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي الملقب أعمر ولد كمبه. إلا أن جملة من الظروف لم تساعده في مسعاه، من بينها:

أولا: صغر سنه، فقد بحث عن الإمارة وهو بعد لم يبلغ الـ 18 من العمر.

ثانيا: تفكك القوة التي كانت تساند ذويه من أولاد أحمد بن دمان وأولاد دمان وأخواله إدوعيش الذين أتوا مرتين بخيلهم ورجلهم وقاتلوا في أقصى الجنوب، لكنهم فشلوا في استعادة الحكم لابن ابنتهم وإن انتصروا في إحدى المعركتين اللتين شاركوا فيها إلى جانب والده امحمد وأنصاره الدامانيين: معركة أفجار سنة 1817 ومعركة أباخ (الصطاره) في ذات السنة 1817.

ثالثا: ميول الفرنسيين إلى الأسرة الحاكمة الجديدة لاعتبارات من أهمها أن مصلحتهم تقتضي التعامل مع جهة واحدة وزعيم واحد، بالإضافة إلى ما استشفوا من قلة حظوظ الأسرة الأميرية الأولى في استرجاع عرشها.

رابعا: قبوله للتنازل عن المطالبة بالإمارة (لفقدان السند الداخلي والخارجي)، ورفضه المطلق البات للتنازل عن المصالح والإكرامات التي كانت من حق أجداده على ضفة النهر (كالإتاوات، والتعويضات عن توقف القوارب التجارية والمزايا المادية التي تمنحها سلطات سان الويس)، الأمر الذي شكل مساسا بهيبة الإمارة وبجزء من سلطاتها وبعض مصالحها الحيوية، فكان لابد لها أن "تتصرف" بشكل أو بآخر، خاصة أن الأمير الشاب يعتبر، وربما يعتبر بعض أبناء عمومته المباشرين، أن التنازل عن المزايا الخاصة بهم سيكون بمثابة التخلي عن جزء آخر من أمجادهم أو عن النصيب المتبقي من سيادتهم (بعد أن أجبرتهم الظروف على التخلي عن السلطة).

خامسا: المؤامرات الداخلية والشراك التي وضعت للشاب فوقع فيها دون أن يحسب عواقبها، ومن أبرزها عملية قتل التاجر جاك موليفار: صديق والده وصاحب المكانة الكبيرة لدى الفرنسيين، ما جعل فرنسا تعتبر أنها إن لم تقتل قاتله ستخسر هيبتها وسمعتها لدى سكان المنطقة، فكان لابد لها من استدراج الشاب إلى اندر لتجعل منه مثالا تروع وتردع به كل من يحاول المساس بمواطنيها وحلفائها. وعند القراءة المتأنية لما بين سطور الوثائق الفرنسية، نكتشف أن الإمارة شاركت في عملية الاستدراج تلك لأن الشاب أظهر قدرات فائقة على المنافسة، ولأنه ينبئ بمستقبل واعد قد يهدد أركانها ولربما تمكن، بحنكته وشجاعته وعلاقاته وثرائه المادي وما لديه من مقومات التفاهم مع الفرنسيين، من انتزاع السلطة وإعادة الإمارة إلى نسختها الأولى.

إذن قـُتل التاجر الخلاسي سنة 1831 على يد المختار ولد أمحمد ولد إعلي الكوري، أو على يد أبناء عمومته أولاد أعلي بوشارب، أو على يدهم جميعا (انطلاقا من شهادات مختلفة تم الإدلاء بها خلال جلسات المحاكمة المنعقدة في سان لويس سنة 1832)، أو قتل بحضور الشاب المختار وتمت فبركة التهمة لجره إلى المشنقة (فهو يحرج الإمارة لأنه يطالب بنصيب من الدخل، ويحرجها لأنه مهيأ لقيادة التناوب السياسي، ويحرج فرنسا لأنه يفرض إتاوات وإكرامات مضاعفة على اعتبار أنها تدفع نفس الإتاوات والإكرامات للإمارة، ويحرجها لأنه يشكل قطبا ثانيا، وفرنسا تعتبر أن مصالحها تقتضي التفاوض والتعاطي مع قطب واحد). وهكذا وجهت له التهمة، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ فيه الحكم رميا بالرصاص، ليكون بذلك أول بيظاني يحاكم محاكمة عصرية مكتملة الأركان: من رئيس محكمة، مرورا بالقضاة، فممثلي النيابة، إلى المحامين، والشهود، وبذلك يكون أيضا أول بيظاني يصدر عليه حكم بالإعدام وينفذ فيه رميا بالرصاص. علما بأن بعض أعضاء المحكمة أصيبوا بحزن شديد وإحباط كبير إثر تنفيذ الإعدام في الشاب المختار لأنه، بالنسبة لهم، أعدم على خلفية أحداث وقعت وهو بعد لم يصل سن البلوغ القانوني (كان سنة 1931 في حدود الـ 16 من العمر، وإن حاول رئيس المحكمة تقديم أدلة غير مؤصلة على أنه في حدود الـ 21 سنة)، كما يعتبره بعض الفرنسيين من أقرب البيظان إلى نمط حياتهم العصرية، وأنه يتكلم لغتهم بطلاقة، ويمكن التفاهم معه أكثر من غيره، بالإضافة إلى أنه ضحية لمؤامرة تروزية-فرنسية بشعة لم يفهم أبعادها لصغر سنه.

ومهما يكن، فإن ملفه يظل نقطة سوداء في جبين العدالة الفرنسية، سيجد، في يوم من الأيام، من يرفع اللبس عن قضيته ويفكك ألغازها وطلاسمها. كما سيظل مفخرة تروزية لأنه، وإن أنكر التهمة، رفض التنازل عن مصالح ذويه، ورفض المساومة في حقهم على المراسي والمراكز التجارية، ورفض الخضوع لسلطة لا تقبل به شريكا، وذهب إلى مكان الإعدام متماسكا بخطى واثقة حسب شهادات الفرنسيين أنفسهم.

محرر زاوية "تاريخ مغيّب"في صحيفة ناواكشوط

 

 

الحلقة  السادسة من تفاصيل الملف حسب ترجمة الأستاذ سيدي ولد متالي

 

 

...زلا شيء أقل شبها باليقظة من السلوك الذي تحدث عنه الشهود في طلب المتهم من ماليفوار أن يعطيه غطاءه.. و الذي لم يكن وديا لدرجة أنه أثار امرأة مسكينة.. و هذه بتصرفها الطبيعي في جنسها خاطبت ماليفوار قائلة:" أعطه غطاءك.. ألا ترى أنه يبحث عن سبب لكي يُحدث فتنة... و لكي يقتلك..؟" و رميه وعاء الدخان بطريقة عنيفة و كان سُلِم له بكل سخاء.. و إيعاز المختار لمجموعته بقوله" أطلق النار" و جواب أعمر" أطلق أنت النار.. يا مختار"... و الطلقة النارية المسددة من المتهم.. و ليس ذلك من على المنكب.. و إنما من الأعلى إلى الأسفل.. في اتجاه خاصرة ماليفوار.. و البارود الذي أشعل النار في ثوب هذا الأخير .. و عبارة الدهشة التي ترددت على الفم الملائكي للضحية: " يا مختار.. لقد أضرمت فيَ النار.." و هذا الأمر الجديد بإطلاق النار و المنفذ لا من طرف الفرسان الثلاثة، كما قال المختار، و إنما من طرف أعمر.. و هو الوحيد الذي أصاب ماليفوار في رأسه.. و أخيرا الإصابات القاتلة التي وجدت في أجزاء الجسم التي أصابها التي أصابها المختار و التي اِعترضتها تميمة ماليفوار.. كل هذه الشهادات المنقولة منذ سبعة عشر شهرا من طرف شهود مبرزين و بدون اختلاف جوهري... ألا تبدو كافية لتؤلف أمام أعينكم لوحة واضحة و مخيفة للاستنارة..
و حقيقة.. فإن التكروري بابكار، المرابط، المُبرز في الإشهاد.. و الذي غاب.. و لا تعرفون إلا شهادته الكتابية التي رسمها أما قاضي التحقيق و صرح فيها أن المختار أطلق النار في الهواء.. و أنه لم يحضر مع الآخرين إلا لكفهم عن إحداث الشر.. و اتفق محمد البيضاني، رقيق المختار و محمد الآخر ، المولى.. معه على ذات الشهادة.. و لكنهم اتفقوا كلهم أنهم كانوا على بعد ما يناهز 100 خطوة عن مسرح الجريمة .. و كلهم مخلصو الود للمتهم..
فهذه الشهادة التي لم يمثل أصحابها أمامكم ليكرروا الإدلاء بها أمامكم عندما تقارنوها بشهادة طاقم ماليفوار الذين كانوا على بعد خطوات فقط من المسرح .. و الذين رأوا كلهم و سمعوا التفاصيل الدقيقة للحدث.. و الذين ليس لهم هدف معين في إدانة المختار دون غيره{ تجدون مصداقيتها}..
أما ما يخص البصيرة { أو سبق الإصرار} فلن نقول فيها بنت شفة ما دامت النقاشات قد أكدتها... و سيكون بإمكاننا القول في تصرف المتهم إن هنالك كمينا { كان منصوبا للضحية}.. فيكفينا أن نقرأ فقط المادتين 297 و 298 من قانون العقوبات اللتين تنصان على هذه الظروف الخطيرة.." انظر المادتين المذكورتين أعلاه"..
هل إن المتهم مذنب في التدبير و التمالؤ في القتل العمد على شخص مافال و رجال من طاقمه..؟ هذا فضلا عن السرقة و الجرائم الأخرى الناتجة عنها..
هل هو مذنب في ظرف سبق الإصرار الذي تتصف به عملية الاغتيال؟
بإمكاننا أن نقولها، سادتي، فإنه ليس لدينا ما يثبت هذه التهمة إلا افتراءات خطيرة و شهادة شخص واحد هو المسمى مابووي.. الذي صرح، بعد أدائه اليمين أمام القاضي أنه عند مهاجمة السفينة عاد المختار مع أعمر ولد بوشارب و البيضان الآخرين.. و لكنه كان منعزلا قليلا في الداخل.. و هو نفسه اعترف لكم أنه كان هناك.. و أن سمو مكانته و الإدارة التي قاد بها عملية اغتيال جاك ماليفوار و مروره في صباح ذلك اليوم أمام لافاي برفقة أعمر .. و أخيرا شهادة مابووي تبدو لنا دلائل واضحة على أن المختار كان هنا للسهر على تنفيذ أوامره... بقيت لنا بعض الشكوك حول التهمة في القضية الجنائية، و الشك، سادتي، قضية مقيتة.
فإذا أعلنتم، سادتي، أن المتهم مذنب فإنه لن تبقى، دائما، قضية سبق الإصرار مستبعدة..لأنه من الملاحظ أن كل الانتقام و كل الفوضى و كل الجرائم الممكنة كانت منْوية منذ فترة.. أي من اليوم الذي تم فيه سجن إعلي ولد بوشارب.. و هذا لا يحتاج إلى برهنة..
و هكذا أنهينا، سادتي، فحص الجرائم المسجلة وتبقى الآن قضية الحق العام..فهل تحاكمون طفلا أو رجلا تاما، مرتكب جريمة منفذة بدون نية أم جريمة مرتكبة بنية القتل العمد؟
و بصيغ أخرى.. فهل كان عمر المختار ست عشر سنة عند ارتكابه الجرائم المتهم بها؟
و إذا كان عمره أقلَ من ست عشرة سنة.. فهل تصرف دون أو مع سبق إصرار؟
ليس هنالك أي من الشهود المبرزين عندنا أو عند محامي المختار من حضر ميلاد المختار.. و لكن هنالك ما يستشف من الشهادات الأساسية التي أدلى بها الشهود في الملف أنه من الممكن أن يكون ميلاده إبان معركة { إنتيمركاي} التي كانت بين ترارزه و إدوعيش في بحر سنة 1816 مما يفرض أن يكون عمره الآن ست عشرة سنة و نصف السنة.. و عليه يكون عمره عند ارتكاب الجريمة لا يتجاوز خمس عشرة سنة فقط..
و قد رآه آحادٌ أبان المعركة المذكورة في حضن أمه و رآه آخر و هو يرضع ثدي أمه.. و هنالك آخر أعار أباه قالب سكرٍ لزوجته عند وضعها به..
هذه، أيها السادة، تحديدات دقيقة و الشهادات التي تدل عليها متفقة بامتياز.. و لكن كيف يمكننا أن نقتنع بها في داخلنا..؟
لأننا نعرف، بما لا يدع مجالا للشك كل ما يعرفه الناس هنا مثلنا.. فالشهود الذين أقسموا على أن يتكلموا دون خوف.. يظهر منهم بعض الغموض في هذا الجانب.. أو، على الأقل، إذا كانون لا يخشون شيئا اليوم فإنهم جعلوا من شهاداتهم وسيلة لتفادي نتائج صعبة المراس.. و سنقول إنهم أقسموا على أن يقولوا الحقيقة، كل الحقيقة، و لا شيء غير الحقيقة..
و لكننا نريد أن نتعامل مع هؤلاء الشهود بنوع ما من التصرف و الحذر.. و لا نقول لهم على ما ذا يدل عندنا ما يعنونه بكلمة " الحقيقة...
هنالك، سادتي، عندكثير من الناس، و في عديد الظروف، نوعان من الحقيقة:
ـ بعض من الحقيقة مطلق و إيجابي و يقال إنه ملموس..
ـ بعضٌ منها نسبي، تواضعي،وهمي.. و هو بالفعل مثالي..
و هكذا توجد أحداث تاريخية ذات حقيقة مطلقة .. بيد أنه من بين المؤرخين، و في جميع الأمم و في جميع المجتمعات.. وجد رجال اهتموا بمقاضاة في قضايا عمومية دون أن يحصلوا على تفويض في هذا الموضوع..
هؤلاء الرجال لديهم مبدأ أن الحقيقة تصير كذبا عندما تشكل نوعا من أنواع الخطر.. و لا يحتسبون أنهم يكذبون عندما يلفقون القضايا بطريقتهم الخاصة عندما يزكون ما يعتبرونه مطابقا للصالح العام و متفقا معه.. و هذه الحقيقة لا توجد سوى ذلك إلا في أهوائهم الشخصية في تعاطفهم مع أنظمة معينة أو في حالة مخاوف خيالية.. و على العموم عندما تتداولها الأفواه و تنتقل من جيل إلى جيل.. ينتهي بها الأمر لتصبح غير قابلة للنقاش..
هذه أيضا، سادتي، حقيقة مطلقة.. و هي أن تكون خيِرا و فاضلا.. هنالك أشخاصٌ يجيبونكم على ذلك أن الحقيقة بالنسبة لهم هي السعادة و الغنى... و لن تُخرجوهم من هذه الحلقة المفرغة..
و في الأخير، و هذه حقيقة إيجابية و مطلقة تنيرها لنا الشمس.. و مع ذلك.. لا يخلو الأمر من أشخاص يريدون أن يجعلوكم تشكون في ضوء النهار عند الظهيرة..
فكل الشهود الذين أراد دفاع المتهم إثبات السن بشهادتهم ينتمون إلى إحدى هاتين الفئتين.. فمتهم من أخذ للحقيقة المصلحة العامة بمفهومها على طريقتهم.. و التي لا تتوفر فيهم صفة مناقشتها.. و منهم من اعتمد كثيرا على مصلحته الخاصة.. و أخيرا هنالك واحد.. وُجِد وحده.. و وحده فقط أمام قضية ذكرها وحده .. ينعدم فيها المنطق و تخلو من المعقولية لدرجة أننا لا نعرف كيف نصفها..
فالسيد آلانه، شقيق العمدة جوزيف، أراد أن يجعلكم تظنون أن المتهم المختار كان عمره سنة 1827 لا يتجاوز ثمان سنوات.. مما يجعله لا يتجاوز عمره ثلاث عشرة سنة في عام 1832...
فإذا كانت هذه مزحة أرادها ألانه.. فإنه كان ينبغي لهه أن يختار مكانها و زمانها..و الأشخاص الذين يتوجه إليهم بها..
فالشهود الذين استمعنا إليهم أدلوا بشهادات متناقضة.. تحدثوا بكثير من الاحتشام و الحذر.. حتى كان لا بد من طرح الأسئلة واحدا واحدا.. عسانا نحصل على كلمات قليلة منهم...
بينما كان شهود المختار يتكلمون تلقائيا و بثرثرة و استفاضة... فماذا يُستنتج من ذلك؟
يتواصل...

تابعونا على الشبكات الاجتماعية