دقة - حياد - موضوعية

مستقبل دول شمال أفريقيا وعلاقتها الإفريقية

2017-01-29 03:49:20

لا شك أن عديد الباحثين والمحللين للأوضاع في إفريقيا، انبروا منذ سنوات عديدة يتعاملون مع “الشأن الإفريقي”،

.

ليس بوصفه ملفا واحدا ذا أبعاد ومشكلات متعددة، إنما باعتباره قسمين جغرافيين، شطره الأول في الشمال، ويشمل البلدان العربية القريبة من جنوب المتوسط، والشطر الثاني، يتمثل فيما يعرف بـ “إفريقيا جنوب الصحراء”، ويتضمن ما يطلق عليه البعض، دول “القارة السمراء”، وهو تقسيم متماه كليا مع الدراسات الإستشراقية، وصنوها الغربية، ذات الخلفية الاستعمارية القديمة، التي تحاول ـ وقد تكون نجحت ـ أن تعتمد قسمة تقوم على أساس عنصري، تعكسه تلك الدراسات والمقالات والريبورتاجات الإعلامية، التي تصور القارة على أنها بيض وسود، في نوع من التمييز الذي يتعارض كلية مع ثقافة حقوق الإنسان الحديثة.
هذا المسار “النضالي”، وهذا المستوى من التعاون السياسي في العلاقات العربية الإفريقية، أثمر في الواقع أول مؤتمر قمة عربي / إفريقي من نوعه التأم في العام 1977، وانتهى بإصدار وثائق أساسية حدّدت مجالات التعاون المشترك، وأنشأت مؤسسات وأعدّت برامج وآليات، لكن كل ذلك لم يجد طريقه للتنفيذ، ما أدى إلى اندلاع نزاعات بينية بين أطراف عربية وإفريقية، وسجلت اعتداءات وتدخلات وعمليات احتلال خارجية، انتهت بتغيرات في طبيعة الأنظمة السياسية، تراجعت على إثرها العلاقات العربية / الإفريقية، ودخل العرب والأفارقة في ما يسميه بعض المراقبين بـ “مسار هشاشة العلاقات”..
لكن هل معنى هذا، أن الطريق إلى وجود إفريقي في استراتيجيات العرب، أو العكس أيضا، أمرا صعب التحقق في المرحلة الراهنة، وبخاصة في ضوء التحولات التي تشهدها دول الربيع العربي، وفي ظل المخاض الديمقراطي الذي تمر به دول إفريقية عديدة جنوب الصحراء ؟شمال إفريقيا وغرب الوطن العربي يؤثران في أمن البحر الأبيض المتوسّط وخطوطه التجارية (مضيق جبل طارق)، بالإضافة إلى تأثيره على المداخل الشمالية من قناة السويس، بما يجعله محددا لأمن البحر الأحمر وخطوطه التجارية.. 
إن إفريقيا الناهضة، “تمثل للوطن العربي اليوم وغدا، الامتداد والعمق الاستراتيجي الحيوي، اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، بما تملكه من طاقات وثروات طبيعية قابلة للاستثمار والتنمية المشتركة، مثلما كانت بالأمس تمثل الظهير المساند لقضاياه، بل والشريك الرئيسي له في نضاله ضد العدوان الصهيوني والهيمنة الاستعمارية” نجد من بين دوافع اهتمام الطرف الإفريقي بالاتحاد الأوروبي: الرغبة في جذب الاستثمارات الأوروبية إلى أراضيه، وعدم اقتصارها على قطاع التعدين، والرغبة في فتح الأسواق الأوروبية الكبيرة أمام المنتجات الإفريقية، عن طريق الحصول على تسهيلات تجارية واقتصادية، وتنويع علاقات الدول الإفريقية الخارجية وتوسيعها؛ بالرغم من تأكيد خبراء الاقتصاد لاتهاماتهم الموجهة للاتحاد الأوروبي: بأنه لا يمضي قُدماً في علاقاته الاقتصادية بإفريقيا نحو علاقات متكافئة، وذلك حتى تستمر القارة الإفريقية منتجاً للمواد الأولية، ومجرّد سوقٍ لتصريف المنتجات الأوروبية المصنّعة، بالرغم من كون الاتحاد الأوروبي الشريك التجاريّ الرئيس لإفريقيا.
إنّ التباين الإدراكي الإفريقي-الأوروبي مرشّح للازدياد لأسباب عدة، لعلّ أبرزها: تشدّد الطرف الأوروبي في الحصول على المزايا التي تتيح له توسيع التجارة غير المتكافئة مع الطرف الإفريقي؛ في مواجهة تشدّد الطرف الإفريقي في أنّ توسيع التجارة يجب أن يتمّ في ظلّ اعتماد عملية تنموية شاملة؛ تتيح لشعوب القارتين تحقيق التكامل الاقتصادي والتجاري العادل.
لعلّ فشل الاتحاد الأوروبي في استغلال فرصة القمة الأورو-إفريقية (29-30 نوفمبر 2010م)، لإغراء الأطراف الإفريقية، يُعدّ داعماً لاشتداد التنافس حول إفريقيا، من خلال جهود تنشيط مبادرة شراكة الولايات المتحدة-دول شمال إفريقيا (مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا)، ويتيح أيضاً العمل بوتائر أسرع في برنامج التعاون الاقتصادي الصيني مع الدول الإفريقية الرئيسة (جنوب إفريقيا، السودان، الكونغو الديمقراطية، أنجولا، موزنبيق، إثيوبيا، غينيا)، وهي الدول التي لو ارتبطت بالشراكة مع الصين؛ فإنّ موارد القارة الإفريقية سوف تكون قد أصبحت عمليّاً في يد الصين، والتي قطعت شوطاً كبيراً في مشروع التعاون الصيني-الإفريقي؛ من خلال انتقائها للتعاون مع الدول الإفريقية ذات الوزن والتأثير في بقية دول القارة الإفريقية.
الإستراتيجية الإفريقية للاتحاد الأوروبي حلقةٌ من حلقات دعم صعود القطب الأوروبي لصالح دعم مكانته الإقليمية والدولية، وشكلٌ من أشكال الهيمنة الجديدة الممارسة على الجنوب الذي لا يزال في مراحل التبعية التي ما تزال تغيّر أثوابها. ما زالت إفريقيا القرن الحادي والعشرين تُستنزف 
وتعاني الاستغلال بكلّ مظاهره، اقتصاديّاً: من خلال سيطرة الشركات الأجنبية المتنافسة على استغلال الثروات، سياسيّاً: عبر الأجندات الغربية التي تتعمد زرع للاستقرار المبرمج الهادف إلى توسيع الأزمات وتعميقها، ثقافيّاً: اعتماداً على آليات العولمة. في المقابل فإن باقي المنظمات الدولية كمنظمة الأمم المتحدة و دول عدم الانحياز و الجامعة العربية و منظمة المؤتمر الإسلامي و الاتحاد الأوروبي و الاتحاد الآسيوي رفضت بشكل قاطع التنكر للقانون الدولي، و التزمت بقرارات مجلس الأمن الدولي الداعية إلى إيجاد حل سياسي وتوافقي للنزاع العقيم حول الصحراء من خلال المفاوضات و الحوار. فهذا النزاع عرقل بناء اتحاد المغرب العربي و حال دون التوصل إلى تفاهم بين الجاران الشقيقان، المغرب و الجزائر،
 استمرت ثورات الشعب المغربي الأصيل، سواءٌ في الشمال أو في الصحراء الغربية أو في موريتانيا، وزادت حدة الثورات في سنة 1952م عندما عزل الفرنسيون السلطان محمد الخامس، ووضعوا مكانه رجلاً آخر هو محمد بن عرفة،
 ولكن فرنسا ازدادت في قمعها للثورة، وقامت بنفي السلطان محمد الخامس، وابنه الحسن إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر، وذلك في سنة 1953م. ولكن هذا لم يهدِّئ الثورة، بل زادت وتوهجت، وعُرفت بثورة "الملك والشعب"، وشعرت فرنسا أن الأمور تخرج من يدها، فاضطرت إلى إعادة السلطان محمد الخامس إلى المغرب 1955م، بل قامت بالجلاء عن الشمال المغربي سنة 1956م؛ لينال هذا القسم من المغرب استقلاله، وفي نفس الوقت رحلت إسبانيا عن منطقة الريف في أقصى شمال المغرب، وإن ظلت تسيطر على مدينتي "سبته ومليلية".
ومع استقلال هذا الجزء من المغرب إلا أنّ الصحراء الغربية ظلت تحت الاحتلال الإسباني، وكذلك موريتانيا ظلت تحت الاحتلال الفرنسي، وازدادت الثورات في هذه المناطق لتحقِّق التحرير كما حدث في الشمال، لكنَّ الاستعماريْن الفرنسي والإسباني قاما بالتنسيق معًا سنة 1958م في اتفاق أم قرين (شمال موريتانيا)؛ لقمع ثورات المسلمين في هذه المناطق. وبالفعل تم القضاء على الحركة المسلحة في منطقة الصحراء الغربية، وفي نفس السنة 1958م لتتوقف لأكثر من عشر سنوات عن المقاومة، لكن الأمر في موريتانيا كان مختلفًا؛ حيث أدت الثورات إلى خروج فرنسا من موريتانيا سنة 1960م،
 لتعلن هذه المنطقة استقلالها، ولكن كدولة منفصلة عن المغرب، وهي المعروفة الآن بدولة موريتانيا. حاولت إسبانيا أن تقمع المقاومة العسكرية في الصحراء الغربية ولكنها فشلت في ذلك، مما جعلها تقرر الخروج من الصحراء الغربية نهائيًّا في سنة 1975م. لكنها لم تشأ أن تخرج دون أن تترك وراءها مشكلات تُبقِي على الصراع في هذه المنطقة دومًا؛ بحيث لا تنعم باستقرار أبدًا، ومن ثَم يمكن للاستعمار أن يدسَّ أنفه من جديد في المنطقة عندما تحين الظروف. ولذا فقد قامت إسبانيا بعقد مؤتمر في مدريد يضم المغرب وموريتانيا، وأعلنت أنها ستخرج من الصحراء الغربية نهائيًّا لتترك هذه المنطقة للدولتيْن يحكمانها بالطريقة التي يريدان! استمر الصراع العسكري بين أفراد البوليساريو والمغرب حتى سنة 1988م (مدة 13 سنة)، حتى تمت موافقة الطرفين على الجلوس للتفاوض السلمي في الموضوع، وقام الطرفان في سنة 1988م بعقد ما يسمَّى باتفاق المبادئ
والذي يسعى لمعرفة رأي جمهور الصحراء الغربية في القضية، وعمل استفتاء يحل المشكلة، وقد تزامن هذا الأمر مع حدوث تصدعات كثيرة في التحالفات الموجودة بين الجمهورية الصحراوية وبين حلفائها، وخاصة الجزائر التي شُغلت بأحداثها الداخلية. كما تنامي المد الإسلامي في المنطقة وهو يرفض التوجُّه الماركسي لجبهة البوليساريو، وتزايدت حدة الهجوم العالمي على المغرب بخصوص قضايا حقوق الإنسان، والتعذيب في السجون، والديكتاتورية، وغير ذلك من ملفات.. كل هذا أدى إلى قبول الأطراف المختلفة بالجلوس للبحث عن حل سلمي للقضية.
إن الأزمة شديدة التعقيد، والثقة منعدمة بين كل الأطراف، والاستعماريون ينفخون في النار ليستمر الاشتعال، والعرب في حالة من الموات، وكل هذا أدى إلى الدخول في طريق مسدود؛ فاستمرت المفاوضات سنة وسنتين وعشرة حتى أعلنوا في سنة 1999م توقف خطة الاستفتاء لاستحالتها! وفي 31 مايو سنة 2000م تتقدم فرنسا وأمريكا بمبادرة مشتركة لمجلس الأمن لصياغة حلّ سياسي يقوم في الأساس على إعطاء حكم ذاتي للصحراويين في الصحراء الغربية، وذلك تحت السيادة المغربية، وهو يبدو في ظاهره حلاًّ يُرضِي الطرفين، لكن الثقة - كما ذكرنا - منعدمة بين المغرب والبوليساريو. كما أنه لا يخفى على الجميع أن فرنسا وأمريكا لم يدخلا في حل القضية بدوافع الطِّيبة والحرص على حقوق الإنسان؛ ففرنسا أحد أسباب المشكلة في المنطقة، وأمريكا أحد أسباب مشاكل الدنيا كلها، ولكنهما يريدان وضع أقدامهما في كل نقاط الصراع في العالم، ومن هنا فقد رفضت جبهة البوليساريو - ومن ورائها الجزائر - لهذا الطرح، خاصةً أن التقارب بين أمريكا والمغرب كبير
ولن تكون الوساطة تامَّة النزاهة! وماتت المفاوضات عدَّة سنوات، ثم برزت أمريكا من جديد كوسيط وحيد في مشكلات العالم لتدعو الطرفين للتفاوض تحت رعايتها، وقَبِل البوليساريو في ظل الوضع المتردي لجمهوريتهم الاسميَّة والموجودة في تندوف بالجزائر، وبدأت سلسلة من المباحثات في ضاحية مانهاست بنيويورك في أمريكا، ووصلت عدد الجولات بين الفريقين إلى أربعة، وقد باءت كلها بالفشل الذريع، وهم الآن يمهدون للجولة الخامسة، وأغلب الظن أنها ستفشل كما فشلت الجولات الأربعة السابقة. لقد أصدرت الأمم المتحدة قرارًا خطيرًا بوجوب الاستفتاء في الصحراء قبل 30 إبريل 2010م، وتميل جبهة البوليساريو إلى هذا القرار، أما المغرب فتميل إلى فكرة الحكم الذاتي تحت سيطرة المغرب، وأصابع الأمريكان والفرنسيين والأسبان واليهود ليست بعيدة عن الأحداث. 
صحيح أن قضية الصحراء هي من آخر ملفات تصفية الاستعمار التي لم تقع تسويتها دوليا بعد ولكن يمكن اعتبارها أكثر إحدى القضايا العالقة المتبقية من الحرب الباردة. ويبدو أنه طالما لا تبدو «بوليساريو» مستعدة لتسوية الحكم الذاتي الموسع، حتى مع بعض التعديلات التي تراها، فإن القضية ستبقى موجودة رسميا ولكن خاملة عمليا مع فرق كبير: المغرب دولة قائمة وكبيرة وقادرة على التحمل والاستمرار بينما قد تتلاشى «بوليساريو» وتندثر إن لم يكن ذلك ما أصابها فعلا.
المسألة الأخرى المهمة أن دولة مستقلة في الصحراء الغربية تبدو، رغم كل الترسانة القانونية في الأمم المتحدة، دولة لا وجاهة لها ولا أحد ، غير الجزائر، يرى له مصلحة في قيامها. لا وجاهة عرقية أو قومية لها كقضية الدولة الكردية المنشودة، ولا وجاهة دينية لها أو قبائلية كبيرة كما هي جمهورية جنوب السودان، ولا وجاهة تاريخية أو وطنية لها كالدولة الفلسطينية. ثم أي قيمة لدولة تنشأ ضعيفة مهلهلة لا مقومات لها يعتد بها وستظل عبئا على المجتمع الدولي والدول المانحة، أو دولة تدور في فلك الجزائر وهذا ما يبدو أحدا من الدول الفاعلة دوليا مستعدا له. فهل من خطوة تنقذ هذه القضية من النسيان والإهمال الكاملين؟!


الدكتور عادل عامر
دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام
ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية
والاقتصادية والاجتماعية
ومستشار وعضو مجلس الإدارة بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية
والإستراتيجية بفرنسا
 

 

المصدر : المصريون

تابعونا على الشبكات الاجتماعية