دقة - حياد - موضوعية

خواطر من وحي مهرجان المذرذره/ محمد عبد الله بليل

2018-01-15 02:46:33

عدتُ من مهرجان المذرذره الثقافي، وأسبابٌ متعددة تدعوني للحديث عنه، منها الذاتي ومنها الموضوعي..

قرار المشاركة..

فَغَيْرُ خَافٍ أن علاقتي بعُنْوَانِ المهرجان (العلك) - وأنا سليل الشمس - وطيدةٌ على صُعُدٍ مختلفة، ولن أخفيَ أن رغبةً في الحضور خفيةً تملكتني لِأَسْمَعَ وأُسْمِع، وأتذكّر وأُذَكِّر، وأستفيد وأُفِيد..

.

ولما قرأت المقابلة التي أجرتها بعضُ وسائل الإعلام المقروءة مع الأستاذ محمد ولد أحمد ولد الميداح، سليل أسرتي آل الميداح وآل البُبَّان العزيزتين عليَّ وعلى والديَّ، تحدث فيها عن أهداف المهرجان، وما يتوخاه منظموه من وراء تنظيمه، ووقفت على شمولية الدعوة التي وجّهها في تلك المقابلة، وقال فيها بالحرف: "ندعو جميع المهتمين بالثقافة والتراث إلى حضوره، والمساهمة فيه بالنصح، ونذكر من بين البرامج التي سيشملها هذا المهرجان عروضا للمخطوطات المتعلقة بتجارة الصمغ العربي، والاتفاقيات القديمة مع المستعمرين، أو المستثمرين قبل أن يستعمروا البلد..."، أحسست مجددا أنني مدعو حقا إلى المهرجان، بل مخصوصٌ بالدعوة!

وقد التقيت بعضَ منظمي المهرجان والقائمين عليه، كالأستاذ محمد فال ولد عبد اللطيف، والدكتور يحي ولد البراء، وزميلي وصديقي الأستاذ الحسن ولد الحسن، الذي زارني في مكتبي قبل ذهابه إلى المذرذره بيوم واحد، وألح عليَّ أن أتحدث عن الاتفاقيات التي أبرمها الشمس مع الأوربيين، مع التركيز على علاقة الشمس بأمير الترارزه..

وعلى إثر تلك اللقاءات قررتُ الإسهام بمداخلة في هذا الاتجاه.

الطريق إلى المذرذره..                                             

توجهت إلى المذرذره يوم الجمعة 29 دجنبر 2017 رفقة الأستاذ فاضل ولد مختار مولود، مدير الدراسات بوزارة الوظيفة العمومية، وقررنا إجراء توقفين في الطريق إليها: كان أولهما عند قرية المبروك مع الأخ سيدي محمد (الخامس) ولد الشيخ أحمد باب، أحد وجهاء المذرذره المعروفين، الذي رافقنا إلى المذرذره، وثانيهما مع الأخ محمذن باب ولد أحمد، عند احسي سيدي، (قبالة الملزم)، بقصد التشاور..

وَلا شك أن معاينتَنا للحالة المزرية للطريق الرابط بين تگند وانواكشوط لم تترك لدينا ذرّةَ شكٍّ في مشروعية المطالبِة الملحة بإصلاحه، والإسراع بعملية تعبيده وترميمه..

وجدير بالذكر ما كان لحلاوة رفقة الأخ فاضل من أثر في تخفيف وطأة صعوبة الطريق ووعورتها..

ولأن المقامَ مقامُ تاريخ، فلا ضير أن نذكر أن هذا الطريق أولُ طريق يربط بين دكار (عاصمة السنغال) وتيندوف (في الجزائر)، مرورا بـــ (تنكجيج Rufisque، كيص Thies، تيواون، كيبيمير، اللوگه، اندر Saint-Louis، لگويربات Rosso، انواكشوط، أطار، شوم، افديرك Fort Gouraud، بير أم اگرين Fort Trinquet، عين بنتيلي، وبير 75)، وهو المعروف بالطريق الإمبريالي رقم 1..

ثم سلكنا أخيرا الطريقَ الرابط بين تگند والمذرذرة، وهو طريقٌ عرفتُه في حداثة السن ومقتبل العمر، ومررت به مرارا وتكرارا في الثمانينات والتسعينات، فَسُرِرْتُ وأنا أرى عودةَ الناس إليه بعد هجران، ونُمُوَّ الأشجار والنباتات حواليه بعد اقشعرار، وفرحتُ بأن الأرضَ في نواحيه مُطِرَتْ في السنين الأخيرة أمطارا طال عهدُها بها..

وقد تذكرتُ - والسيارة تطوي بنا الطريقَ طَيًّا - هذا الطريقَ قبل تعبيده، وما كان يلقاه سالكوه من متاعبَ وأهوالٍ، ثم رأيت السهولة والاطمئنان تخلف الوعورة والحزونة، والعمران يعقب الخرابَ، والخصب ينفي التصحرَ والجفاف، فتيقنت أن اليسرَ يأتي لا محالة بعد العسر، وهو ما يبعث الأملَ في النفوس ويطرد اليأس والإحباط منها..

وفهمت عند ذلك ما عناه الأستاذ محمد فال ولد عبد اللطيف حين قال في كلمة افتتاح المهرجان: "ولئن كانت خريطة العلك قد تغيرت اليوم عما كانت عليه في القديم، بسبب عوامل الجفاف والتعرية، فليس من المستبعد - إن شاء الله - أن ترجع منطقة إيگيدي كما كانت في القديم: غابات من أيروار تعجّ علكا لا يكاد السائر يجد فيها ممرا".

وقد حيرني ما طرأ على معالم الأرض من تغيير، حين لاحظت أن أغلبَ المواضع سُمّيَ بأسماء غريبة، جاءت في بعض الأحيان نشازا لا علاقة لها بالأرض ولا بالبيئة، وكم كان لأسمائها الأصيلة من دلالات ومعانٍ وثيقة الصلة بالسكان والمكان والزمان!

افتتاح المهرجان..

كان لافتا الإقبال الكبير على المهرجان، أما حسن التنظيم وكمال الانضباط فقد جاء موافقا لما عهده الناس في أهل المنطقة..

وقد تناغمت الطبيعة مع أخلاق وطبائع الساكنة، فاعتدلت حرارتُها وبردُها ورياحُها طيلة أيام المهرجان ولياليه..

كما تكاملت فقراتُ المهرجان المتعددة والمتنوعة، فجمعت إلى الإفادة المتعةَ والجاذبية..

معرض الوثائق..

تميز المهرجان بمعرض للوثائق التاريخية والآلات التقليدية، عُرضت فيه أهم الاتفاقيات التي أُبرمت بين أمراء الترارزه والحكام الفرنسيين، والرسائل التي تبادلوها..

ولأن الوثائق كثيرة جدا، وليس الحصول عليها بالأمر المتاح دائما، غابت وثائق لا تقل أهمية أو قِدَمًا عن تلك التي عُرضت..

وبالمناسبة فقد اصطحبنا معنا عددا من تلك الاتفاقيات، اقترحنا عرض إحداها - ولعلها أول اتفاقية توقع مع الفرنسيين - إلى جانب الوثائق المعروضة، وهي اتفاقية 02 مايو 1785، الموقعة في شبه جزيرة سينلوي بين إدولحاج والفرنسيين، من طرف الشمس امحمد ولد باب الشمس (1769 - 1799)، وجان بابتيست ليونارد دوران Jean-Batiste H. E. Durand، المدير العام للشركة، المفوض من طرف والي السنغال والأقاليم التابعة له، وتتكون هذه الاتفاقية من 12 مادة، وقد أعقبتها الاتفاقية الموقعة بمرسى إدولحاج (محطة الصحراء مقابل تكشكمبه)، في 26 من نفس الشهر من نفس السنة، بين الأمير اعل الكوري ولد أعمر ولد اعل شنظوره (1771 - 1786) ومع المدير الفرنسي ذاته، والمكونة من 17 مادة، لأنها تحدد نصيب كل فرد من الأسرة الأميرية، ونصيب كل بطن من ذرية دامان، ونصيب كل شخصية ذات نفوذ في الإمارة.

وفي المعرض أيضا كان انبهاري الشديد بآلات الصناعة التقليدية التي تجسد عملية إنتاج "العلك" من البداية إلى النهاية، والتي تعبر عن عبقريةِ أصحابها الفذّة، وهي عبقريةٌ برهنت أنه لا غنى عنها في حفظ التاريخ، ووَصْلِ الماضي بالحاضر.. ولله دَرُّ ابن بجدتها الصانع البارع سليل آل بومبيرد، ذائعي الصيت في المنطقة..

عند بابَ ولد سيدي..

في اليوم الأول من أيام المهرجان دعا الوجيه الكبير، الوزير والنائب السابق باب ولد سيدي إلى حفل غداء فاخر، جمع عددا كبيرا من أعيان وأطر المذرذره وضيوف المهرجان، التقيت أثناءَه زملائي في مدرسة المذرذره الابتدائية، وثانوية روصو، ورفاقي في حركة الكادحين، وأصدقائي في الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، وقد فرحت وانتشيت بلقائي معهم، وتبادلنا الذكريات، وتحدثنا في شتى المواضيع..

وكنت كلما التفت يمينا أو يسارا إذا بشخص أو أشخاص جمعتني في الماضي - وتجمعني اليوم معهم - أكثر من قصة وحكاية

كان باب يستقبل ضيوفَه بنفسه، ويسير معهم حتى يُجْلِسَ كل واحد مجلسه، ثم يباشر خدمتهم بيده، متأملا كل كبيرة وصغيرة، رافضا الجلوس والراحة، لا يَكِلُ الأمر لأحد، بالرغم من كثرة العمال والخدام والمتطوعين لعونه ومساعدته..  

عند أهل إفكو..

وطوال اليوم الأول من المهرجان: ما بين زيارة معرض الوثائق والآلات التقليدية والمقيل عند باب ولد سيدي، وما بين نهاية المقيل وبداية انطلاق الفعاليات المسائية للمهرجان، كنت في ضيافة رحبة وكريمة من طرف السيدة مناه بنت محمدو ولد لوليد، وبنات المرحوم محمدن ولد إفكو: حاجة وخديجة، التي كانت "سيدة المهرجان بلا منازع"، كما قال الناطق باسم المهرجان في كلمة الاختتام، وكانت تلك الضيافة في منزل أهل أحمد ولد عبد الله القديم، الذي حافظ على موقعه ومكانه في المذرذره حفظا ووفاء بالعهد..

وكانت هذه الضيافة فرصة طيبة ذَكَّرْنَنِي خلالها بمآثر أسرتَيْ أهل إفكو وأهل ابراهيم فال، وخاصة جدهما سيد زمانه البو ولد إفكو رحمه الله تعالى، الذي سيطر على تجارة العلك مع الشركات الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين، بعد نهاية عصر الاتفاقيات وإغلاق المحطات والموانئ، وتولت حوانيته وسياراته تأمينَ البضائع والنقل ما بين روصو والمذرذره، ولم تنسَ - لا تنسى - الأحياءُ القاطنة على هذا الطريق كرمَه وأفضاله، كما لم ينس التلاميذ – أمثالي آنذاك - أن سياراتِه كانت تنقلهم مجانا من الأحياء إلى المدارس، ومن المدارس إلى الأحياء..

كلمة شكر وامتنان..

ولزاما علي، وأنا أنهي هذه الخواطر، أن أتقدم بجزيل الشكر والامتنان للقائمين على هذا المهرجان ولسكان المذرذرة كافة، على حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، التي كنا محلا لها في جميع محطاتِه وفقراته، وأهنئهم على نجاحه المتميز والمنقطع النظير، وعلى الصورة المشرقة المستحقَّة والمشرفة التي قدمها عن مقاطعتنا العزيزة، وأملي كبير في أن تتكرر النجاحات في المهرجانات التي ستستمر - لا محالة - وتنتظم باطّراد بإذن الله.

تابعونا على الشبكات الاجتماعية